أعادتنى أنشودة «أحلف بسماها وترابها .. احلف بدروبها وأبوابها»، رائعة الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى زميلى وصديقى منذ مرحلة الطفولة والصبا والشباب إلى مدرسة قنا الإبتدائية عندما كنا زميلين فى السادسة من عمرنا وكان الشيخ محمود الأبنودى - رحم الله والده - يقوم بتدريس مادة اللغة العربية، هذه الأيام الحلوة والجميلة التى لن ننساها حتى انتقلنا إلى الصف الإعدادى والثانوى بمدرسة قنا الثانوية ليلحق بنا ثلاثة زملاء فى نفس المدرسة: أمل دنقل الذى أصبح واحدا ً من كبار الشعراء المصريين ، ومحمد صفاء عامر الذى التحق بعد الثانوية العامة بكلية الحقوق وتدرج فى السلك القضائى إلى أن اصبح رئيسا ً لمحكمة الاستئناف و تفرغ لكتابة المسلسلات الدرامية وأصبح واحدا ً من كبار كتاب السيناريو واشتهرت أعماله الدرامية بشكل كبير ومنها مسلسل « ذئاب الجبل» و«الضوء الشارد» و«مسألة مبدأ» وغيرها ثم زميلنا الثالث عبدالرحيم صالح ليلحق بالحقوق ايضا ً ويتدرج بالسلك القضائى إلى أن أصبح نائبا ً لرئيس محكمة النقض ثم كاتب هذه السطور بعد تخرجه فى الحقوق ليعمل صحفيا ً بجريدة الأهرام ثم مستشارا ً إعلاميا ً بسفارتنا بسلطنة عمان، وتنقطع اتصالات الأبنودى وصديقه العزيز عبدالرحيم صالح ويتشوق إلى لقائه الذى مضى عليه ما يقرب من أربعين عاما ً دون أن يراه ، وكنت على صلة وثيقة ب عبد الرحيم من خلال ابن قنا أيضا ً المخرج الكبير يوسف حجازى صاحب البصمات الرائعة فى برنامج «كلمتين وبس» للكاتب الكبير أحمد بهجت وتقديم الفنان القدير فؤاد المهندس واستطعت أن أجمع بينهما قبل رحيل الأبنودى بسنوات فى مكتب نائب رئيس محكمة النقض ليتعانقا بعد هذا الانقطاع الطويل وتغمر عيناهما الدموع من فرحة اللقاء ويشكرنى عبد الرحيم على هذا اللقاء الجميل، ويستمر عطاء الأبنودى الشعرى وينتشر فى وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ويصبح واحدا من كبار شعراء العامية فى زماننا ليتغنى بأشعاره عبد الحليم حافظ ونجاة وفايزة أحمد وشادية ووردة ورشدى والعزبى ومحرم فؤاد وغيرهم . أما حكاية «احلف بسماها وترابها» فقد ولدت هذه الأنشودة بعد نكسة 1967 التى أدمت قلوب كل المصريين خاصة الشعراء الكبار الذين جسدت كلماتهم الرائعة إنجازات ثورة 23 يوليو وأصبح العندليب عبد الحليم حافظ مؤرخ هذه الإنجازات بالأغنية وأيضا ً سيدة الغناء العربى أم كلثوم ورائعة الشاعر الكبير كامل الشناوى لحن الموسيقار عبدالوهاب «على باب مصر تدق الأكف ويعلو الضجيج .. أمعجزة بلا أنبياء أو دورة أرض بغير فضاء..» إلى أن تنتهى بجملة: «وعندى الجمال ومنى جمال» فيزداد حزن شاعرنا الكبير صلاح جاهين الذى كتب أجمل أغانى الثورة من ألحان كمال الطويل: «صورة صورة كلنا كده عايزين صورة.. صورنا يازمان حنقرب من بعض كمان واللى بيبعد من الميدان .. عمره ما يبان فى الصورة» .. و«بالأحضان يا بلادنا الحلوة بالأحضان».. وحسين السيد ووطنياته المتعددة، وأحمد شفيق كامل الذى كتب للثورة رائعته «السد العالى راح على البنك اللى بيساعد ويدى.. قاله حاسب قالنا مالكمش عندى» إلى أن تنتهى الأغنية بجملة إحنا أممنا القنال وغيرها من روائع الأعمال الغنائية التى جسدت الثورة وازداد حزن الشاعر الكبير وتأثره بهذه الأزمة ليلتقى بصديقه الموسيقار الكبير كمال الطويل معبرا ً عن انفعاله وحزنه العميق ليقرأ له أقصر أغنية وطنية عبر فيها عن رفضه للنكسة وتطلعه للنصر الكبير وينصت كمال الطويل له جيدا ً وينفعل بالمذهب الذى كتبه الأبنودى ويجلس على البيانو فى شقته بشارع العزيز عثمان بالزمالك وكلمات الأبنودى أمام عينيه تقول: «أحلف بسماها وبترابها.. أحلف بدروبها وأبوابها.. أحلف بالقمح وبالمصنع.. أحلف بالمدنه والمدفع.. بولادى بأيامى الجاية.. ما تغيب الشمس العربية.. طول ما أنا عايش فوق الدنيا» ويعيش كمال الطويل وهو فى قمة انفعاله بكلمات الأبنودى لينتهى اللحن فى اليوم التالى ويجرى الطويل اتصاله ب عبد الحليم حافظ ويزف إليه نبأ آخر ابداعات الأبنودى التى يرفض فيها الهزيمة متطلعا ً إلى النصر ومؤكدا ً فى نفس الوقت أن النصر قادم لا محالة وأن الشمس لن تغب عن مصر صاحبة أعظم حضارة عرفتها الإنسانية وأعظم وحدة وطنية عرفها التاريخ، وكان الأبنودى يثق فى إرادة المصريين وقدرة الجيش المصرى على غسل عار الهزيمة وتحقيق النصر وهو ما حدث بالفعل فى أكتوبر 1973، وتصبح هذه الأنشودة القصيرة القليلة فى كلماتها والكبيرة فى معانيها واحدة من أهم الأغنيات التى يفتتح بها عبدالحليم كل حفلاته الغنائية حتى نهاية 67 مؤكدا ً للعالم كله أن الليل سينجلى وأن النهار قادم ليغنيها عبدالحليم بكل حماس ووطنية متأثرا ً بلحن الموسيقار الكبير كمال الطويل الذى قدم ل عبد الحليم أحلى أغانى الوطن التى تعيش فى وجداننا حتى يومنا هذا لعمق معانيها سواء كانت من كلمات صلاح جاهين أو أحمد شفيق كامل أو كامل الشناوى أو الأبنودى وكان عبدالحليم يشعر بكل البهجة والمتعة وحب الوطن قبل أن يدخل فى أى أغنية عاطفية جديدة سواء كانت من كلمات حسين السيد أو مرسى جميل عزيز أو مأمون الشناوى أو محمد حمزة أو مجدى نجيب وغيرهم ومن الحان عبد الوهاب والطويل وبليغ حمدى أو الموجى لتصبح أحلف بسماها أحد روائع الأبنودى الوطنية التى ترددها الأجيال جيلا ً بعد جيل .