لأن أحدا بكل أسف لم يتذكره ولو بسطرين اثنين فى ذكرى رحيله عنا انه الصديق العزيز والكاتب الصحفى الكبير الذى لا يتكرر ولن يتكرر الذى اسمه أنيس منصور.. هو ان شئتم أو ان شئتن بنون النسوة.. واحد من أعظم من انجبتهم مصر من الكتاب والصحفيين والأدباء والمفكرين والفلاسفة فى عصر كانت فيه مصر ولودا ودودا.. وهو عصر بكل أسف فات وانقضى ولن يعود فيما يبدو.. ونحن الآن نعيش فى عصر الخواء الفكرى والفراغ الأدبي.. والضياع الفنى ومعها زحفت قلة القيمة.. وقلة الضمير.. انه عصر شئنا أو لم نشأ فيه كل شيء يباع ويشترى لمن يدفع أكثر.. حتى الأدب والفن والإبداع والنجاح بل والحب.. نفسه والضمير الإنسانى كله.. دخل سوق البيع والشراء.. واللى ما يشترى يتفرج.. كما يقول المثل البلدى الذى لا يخطئ أبدا. أقول للصديق العز يز والكاتب الكبير الذى اسمه أنيس منصور - أكثر من 200 كتاب.. من بينها كتاب رائع أو قل موسوعة من الكلمات القصيرة الحكم والأمثال.. تماثل حكم العرب الذين قالوا على لسانهم تحت مسمي: «لسان العرب» فى كل نواحى الحياة.. حلوها ومرارها.. بغضها وكرهها.. حنانها وعطفها.. عبوسها وضحكها.. قربها وهجرها.. طيبتها وقسوتها.. عطائها وصدها.. عطفها ومجونها.. سواد ليلها وضياء نهارها.. شمسها وظلها.. عدلها وظلمها.. فيما صنعه الإنسان.. بجحوده ونكرانه.. وظلمه وبغيه.. وفساده فى الأرض.. ونسيانه وعظمة ما صنعه الاله الأوحد الواحد.. بعطفه وعفوه وغفرانه ونعمائه التى لا تعد ولا تحصي.. { { { { ولعل أخطر ماقاله أنيس منصور فى كتابه أن عمار الكون كله كان هو بيد المرأة الصالحة الأمينة التى تربى أجيالا ويخرج من بيتها العباقرة والفلاسفة والمصلحون والصالحون من العلماء والقادة وحكام الكون ومعهم لا بأس ولا ضرر ولا ضرار الذين اقاموا الدنيا ولم يقعدوها واذاقوا الكون كله ويلات الحروب التى أبادت شعوبا ودمرت بلدانا فى طرفة عين.. بالقنابل الذرية كما حدث فى هيروشيما وناجازاكى المدينتين اليابانيتين اللتين وضعهما القدر فى طريق عمنا ترومان الرئيس الأمريكى الذى لم يجد مهربا من شبح الهزيمة أمام اليابان ولكى يكسب الحرب إلا أن يستخدم القنبلة الذرية لأول مرة فى التاريخ الإنسانى كله.. ليمسحوا من على الخريطة مدينتى هيروشيما وناجازاكى بسكانهما.. الأطفال قبل الصغار والصغار قبل الشباب والشباب قبل النساء والرجال ومن بلغ من العمر عتيا.. لتكسب أمريكا الحرب وتخسر الشرف والكرامة والأمانة والحق والخير والسلام.. وعند الموت وكلمة النهاية عادة لا يتذكر كتاب التاريخ إلا أعلام المنتصرين وبيارق الغالبين التى يكتبون تحتها عادة كلمة «النهاية»! الكلمات الأخيرة ليست لي.. ولكنها لصديقنا ورفيق دربنا درب الكلمة والحق والعدل والجمال والفضيلة.. الذى اسمه أنيس منصور بلسانه وقلمه.. { { { { قلت لعمنا أنيس منصور ضاحكا هذه المرة: هل تثق فى المرأة؟ قال ضاحكا: نعم ولكن حتى باب السكة! سألته: يعنى ايه؟ قال: العبارة خدها كما هى بلا تفسير! سألته: هل تكذب على زوجتك؟ قال: أى رجل عاقل أول واحدة يكذب عليها هى زوجته! سألته: ليه يا فيلسوف عصرك وأوانك؟ قال: حتى ينام ملء جفونه حتى الصباح! يسألني: وأنت؟ قلت له: أنا لم أكذب أبدا على زوجتى فى حياتى كلها ولكنى اتجمل كما يقول إحسان عبدالقدوس! يسألني: ازاي؟ قلت: أنا لا أحدثها عن أى امرأة قابلتها أو تعمل معي.. ولا ابدى اعجابى أبدا بأى امرأة أخرى أمامها! يسألنى بخبث الكبار قوي: وهل صدقتك؟ قلت له: زوجتى لا تصدق أى كلمة اقولها لها فى أى امرأة أخري.. لأنها تعرف يقينا اننى أكذب عليها! يسألني: ليه يا عم عزت؟ قلت له: يا عمنا الكبير مفيهاش كلمة ليه.. لانك لكى تعيش هادئا هائنا فى حياتك وتنام على جفنيك.. لا تقل لامرأتك الحقيقة أبدا.. لأن المرأة لها قاموسها الخاص فى تفسير كلام الرجل! هو يقول لي: أنا أعرف الجواب.. لأنها مثل كل النساء اللاتى خلقهن الله.. لن تصدقك! { { { { وإذا كانت امرأة سقراط الفيلسوف الإغريقى العظيم هى سر شقائه وعذابه فى دنياه.. والتى قال عنها عندما سألوه: لماذا أنت فيلسوف؟ قال: إنها زوجتى التى حولتنى إلى فيلسوف بنكدها ونقارها الدائم معي! ولكن عمنا وتاج رأسنا أنيس منصور كان يعتبر زوجته هى سر سعادته ولا يجد راحة ولا يتنفس نسائم السعادة إلا فى وجودها.. حتى إنه عندما مرضت وذهب بها إلى باريس لعلاجها عند أشهر الأطباء فى أوروبا.. كتب عمودا كاملا عنها فى الصفحة الأخيرة فى الأهرام بعنوان: زوجتي.. يارب؟ وأنا شخصيا أعرف زوجته عن قرب وكانت هى سر نجاحه.. فقد وفرت له أسباب الراحة.. حتى يكتب وينطلق ويبدع.. وفى اعتقادى أن سر نجاح أنيس منصور العظيم هو أن وراءه كانت تقف زوجة عظيمة! { { { { كنا معا عندما صفا لنا زماننا وقال لنا أهلا.. وهى من المرات القليلة التى قلما يصفو فيها الزمان لكاتب كبير وفيلسوف عصره وأوانه الذى اسمه أنيس منصور وكاتب هذه السطور عندما ذهبنا إلى الأقصر التى اعشقها عشقا.. ويهيم بها مثلى كاتبنا الكبير.. ومعنا رفيق الدرب والطريق أيامها الذى اسمه زاهى حواس صاحب الاكتشافات والأمجاد.. الذى وهب عمره كله لأجداده الفراعين العظام ولايزال.. والذى تركنا لمهمة عاجلة فى معبد أبوسمبل.. واكتشفنا أن من بين نزلاء الفندق أعظم كاتبة روايات بوليسية فى التاريخ والتى اسمها اجاثا كريستى صاحبة رواية: جريمة فى وادى الملوك.. التى هزت الدنيا هزا ونفدت طبعاتها العشرون فى أوروبا والعالم كله.. والتى تحولت إلى فيلم سينمائى هائل قامت بدور البطولة فيه قطة السينما الأمريكية المدللة اليزابيث تايلور على ما أذكر.. وجاء لقاؤنا بالصدفة الجميلة.. عندما تعطل مصعد الفندق الضيق موديل عصر رمسيس الثانى كما اطلقت عليه اجاثا كريستى يومها.. وكنا نركبه نحن الثلاثة.. فتقدم أنيس منصور وأمسك بيدها حتى نزلا معا على السلم وأنا من خلفهما إلى صالون الدور الأرضى المطل على نيل الأقصر.. وجلسنا ثلاثتنا نتحدث فى بهو الونتر بالاس.. ومع فناجين القهوة المضبوطة دار حديث ولا فى الخيال ويكفى أن اثنين من المتحدثين ودعك منى أنا هما أجاثا كريستى ياللهول وأنيس منصور.. ربنا يستر! { { { { قالت أجاثا كريستي: أنتم فى مصر تملكون أسرار الكون كله.. ولكنكم لا تحكمونه! قال أنيس منصور: الضمير الإنسانى ولد هنا وتربى هنا وتعلم هنا.. وخرج من هنا.. إلى الدنيا كلها.. ولكنه تاه فى دروب الأرض ولم يعد! وجدتها فرصة لا تعوض لأقول: ولكن الكبار قوى الذين يحكمون العالم الآن.. يحكمونه بلا ضمير.. ولا يهمهم هذا الضمير الذى يشغلنا ويهمنا فى شيء.. مازالوا يحكمون العالم كله ليس بالعقل والضمير الإنساني.. ولكن بالحديد والنار! احتاجت عمتنا وتاج راسنا أجاثا كريستى إلى من يفسر لها ما قلته.. وقد قام عمنا وتاج راسنا أنيس منصور بالمهمة خير قيام.. حتى إن العمة اجاثا ابتسمت ولمعت عيناها المجهدتان من تحت النظارة الطبية.. وقالت له: يا عزيزى من المؤكد أن أحد اجدادك كان سكسونيا وهاجر إلى بلادكم مع حملة نابليون أو حملة فريزر! اتدخل بقولي: حملة نابليون على مصر رغم بلاويها السوداء.. اضاءت الدنيا نورا وتنويرا وكشفت أسرار حضارة مصر على يد أعظم علماء وكتاب وفنانى فرنسا الذين صحبوا الحملة الفرنسية ومسحوا مصر طولا وعرضا وشمالا وجنوبا وقدموا لنا أعظم مجموعة من الكتب والدراسات العلمية والتاريخية والجغرافية والبشرية عن مصر داخل مجلدات: وصف مصر.. ويكفى ما فعله عمنا شامبليون الذى فك لغز حجر رشيد الذى جعل الدنيا كلها تقرأ تاريخ الفراعنة عام 1822! ويضحك عمنا أنيس منصور وهو يريد أن يكيد للعمة أجاثا بقوله: إن حملة فريزر الإنجليزية.. لم يكن فيها عالم واحد أو فنان أو كاتب.. وقد القت نساء رشيد على جنود الحملة من خلف شبابيك بيوت دمياط الماء المغلى حتى هرب الجنود بجلدهم وفشلت الحملة! بغضب شديد اللهجة وجهت كلماتها إلى عمنا أنيس منصور: لماذا أنت متحامل على الإنجليز هكذا يا عزيزي.. قال لها: الا يكفى انهم احتلونا ثلاثة ارباع قرن بحاله؟ {{ ملحوظة من عندي: لم يكن أحد يدرى أنه بعد نحو 74 عاما من حملة عمنا فريزر الإنجليزية يعنى فى عام 1881 سوف تغزو بريطانيا مصر بعد أن هزمت قوات عمنا أحمد عرابى ودخلت القاهرة! أنيس منصور يتدخل: وكمان أخذت حجر رشيد معاها! قلت: أنا شخصيا رأيت حجر رشيد فى متحف لندن وهو موجود هناك.. وقد اهدونى هناك نسخة منه.. { { { { فى الصباح نزلنا مسرعين أنيس منصور وأنا إلى حجرة الطعام للافطار.. سألنا عن عمتنا أجاثا كريستي.. قالوا لنا: لقد ذهبت فى الصباح الباكر جدا إلى وادى الملكات فى البر الغربى لكى تكشف للدنيا كلها أسرار مؤامرة حريم رمسيس الثالث ملك مصر العظيم.. ولكن ذلك إن شاء الله حكاية أخري!{ وعند كلمة النهاية عادة لا يتذكر كتاب التاريخ إلا أعلام المنتصرين وبيارق الغالبين التى يكتبون تحتها عادة كلمة «النهاية»! Email:[email protected] لمزيد من مقالات عزت السعدنى;