انطلاقا من يقينى بأنه بغير التعليم لا سبيل لبلوغ التقدم الشامل، وتسليما بأن إتاحة التعليم للجميع دون تمييز - لأى سبب كان - حق من حقوق الإنسان، أبدأ فى هذا المقال تناول قضية التعليم فى مصر، فى ضوء الخبرة المصرية والعالمية. واقتناعا بجدوى دراسة التاريخ- باعتباره البديل: للمعمل فى العلوم الطبيعية، وللمنطق فى العلوم الرياضية للبرهان على صحة الأحكام- أسجل بالتعلم منه حقيقة أن سبق مصر القديمة الحضارى كان ثمرة إعلاء مكانة التعليم والعلم، وأن تأخر مصر الوسيطة كان حصاد تدهور التعليم والعلم، وأن تقدم مصر الحديثة رغم كل الاخفاقات كان رهن تطوير التعليم والعلم. وأكتفى هنا فى سياق التعلم من تاريخ مصر القديمة بما سجله جيمس هنري برستد فى كتابه تاريخ مصر من أقدم العصور إلى الفتح الفارسى، يقول: أولا، إن ملوك مصر القديمة كانوا متعلمين ومستنيرين، وبفضل مهارة موظفى الحكومة فى الدولة القديمة بلغ نظام الحكم والادارة في القرن الثلاثين قبل الميلاد تقدما لم تبلغه أوروبا إلا فى أواخر الحكم الرومانى، أى بعد نحو أربعة آلاف سنة!! وقد اشترط على كل موظف حكومى فى مصر القديمة أن يكون متعلماً تعليما راقياً، ونظرا لشدة حاجة الإدارة المالية لكتبة الحساب أنشأت الحكومة مدارس خاصة لتخريج أشخاص لائقين لهذه الأعمال. وكان التعليم مشرفاً لصاحبه؛ فبكر المصريون القدماء بإرسال أطفالهم إلى المدارس، كما اهتموا بتلقينهم الحكم والآداب السامية. ومنذ أقدم أسرات الدولة القديمة كان الاهتمام بليغاً بحسن الخط، ومع كثرة الكتابة على أوراق البردى اختزلوا الخط الهيروغليفى إلى الخط الهيراطيقى، وأثر الخط المختزل فى تسيير أعمال الحكومة والتجارة ونظام الإدارة والمعيشة. واشترط على كل من يرغب فى التوظف فى الحكومة كاتباً أو أميناً بالمخازن أو ناظر زراعة أن يكون ملماً بالكتابة، وعند إتمام الدراسة المقررة يلحق الطالب بمكتب أحد الموظفين للتمرين على الأعمال الكتابية وتصريف الأمور حتى يصبح كفئاً للالتحاق بوظيفة صغيرة تبتدئ بها حياته الكتابية. وثانيا، أن المصريين القدماء كانوا ولوعين بالبحث وراء الحقائق واقتفاء العلوم، وإن انصب اهتمامهم الأساسى على العلم بقدر فائدته العملية. وكانت معلومات المصريين الفلكية غزيرة فتمكنوا من توقيت زمنهم بالسنين قبل عهد الدولة القديمة بألف وثلاثمائة سنة تقريباً. ثم رسموا السماء وعرفوا أهم نجومها وابتكروا آلات مضبوطة تعرفهم مراكز النجوم، لكنهم لم يهتموا بالتفكر فى أصل هذه النجوم لعدم فائدته فى نظرهم. ولشدة احتياجهم إلى الحساب فى معاملاتهم الحكومية والتجارية اكتسبوا المهارة فيها. وتوصل الكتبة إلى حل بعض المعادلات الجبرية البسيطة وإلى معرفة مبادئ علم الهندسة فقدروا مساحة الدوائر بدقة. وترجع معرفة المصريين لحجم نصف الكرة وسعة الاسطوانات إلى احتياجهم إلى معرفة حجوم كومات الحبوب وما تحويه الشون المستديرة من الغذاء. وقد عرف مهندسو العمارة والبناءون شيئاً كثيراً من علم الميكانيكا. وفى رسم قواعد هرم الجيزة الأكبر تتجسم معالم الدقة والإتقان فى اتجاه الأضلاع نحو الجهات الأصلية الأربع مما يتماشى مع دقة الآلات الهندسية الحديثة. وكان المصريون غزيرى المعلومات والنظريات فى الطب، وانتقلت بعض وصفاتهم الطبية لليونان ثم إلى أوروبا وما زال معمولاً بها بين المزارعين إلى الآن، وبلغت الفنون الجميلة فى مصر درجة قرب من الطبيعة لم تبلغها أى بلدة أخرى فى العصور القديمة. وثالثا، أن حب الاطلاع وممارسة العلم شغل الكثير من الناس فى مصر القديمة، ويظهر اهتمامهم بالعلوم من حِكَم الوزراء والحكماء الأقدمين. ويرجع الفضل فى نجاح سياسة زوسر إلى حكمة ودهاء وزيره المدعو أمحتب، الذى برع فى الطب والعمارة، واعتبر فى آخر التاريخ القديم إله الطب، وكان معروفاً عند اليونان بأموزيس. واجتهد رجال الأدب والعلم فى إظهار فوائد آداب لغتهم ومعرفتها؛ فألفوا القصص التى تبادلتها ألسنة العامة والتى أظهرت عظم تأثير الفصاحة والبيان. وانتشر الفن والذوق المصريان فى اليونان وأوروبا بفضل المصنوعات المصرية التى كان يتاجر بها الفينيقيون فى جنوب وغرب أوروبا. وصبغت الصناعة اليونانية بالصبغة المصرية بدرجة كبيرة؛ فظهر على مصنوعات اليونان المعدنية ذوق مصرى خطته أقلام صناع طيبة، وظهرت فى اليونان تلك السقف المزخرفة الجميلة التى إبدعتها أيدى أهالى طيبة. وقد دهشت دهشة بالغة بعثة نابليون الأثرية لما وقع بصرها على المعابد الصغيرة وأيقنت من فورها أنها أصل لعمارة المعابد اليونانية الذى تحيط به العمد من الخارج؛ ولا غرابة فى ذلك فكثير من البناء اليونانى يرجع فى الأصل إلى البناء المصرى. ورابعا، أنه بجانب تقدم التعليم والعلم وفى ارتباط بهما، بلغ فن الحفر المصرى القديم درجة عظيمة، وخاصة فى تلخيص معالم الشخص على تمثاله بقدر الإمكان. وقد نسب البعض الرقى فى الحفر إلى اليونانيين لكن المصريين أول من مارسوا هذا النوع من الفنون الجميلة. وثمة حجر أثرى بمتحف برلين رسما بارزا لجنازة كاهن من منف، ومجموعة من الرسوم من أجمل ما عرف فى بلدان الشرق القديم، ويعتبر من أقدم نماذج فن النقش على الحجر التى تتمثل فيها مظاهر الحياة المتباينة وملامح الوجود المتنوعة بأجلى بيان وأرقى درجة. وارتبط تطور الصناعة فى مصر القديمة بتقدم التعليم والعلم والفن، وتكشف الآثار ما بلغته من جودة واتقان وذوق العمال، وتثبت عظم شأن مصنوعاتهم ونفائس رسومهم وبديع أثاثهم. فالأوانى الذهبية والفضية البديعة المزخرفة بالرسوم الآدمية والحيوانية والنباتية والمحلاة الحافات بالأزهار الساطعة الزاهية، والأكواب البلورية والأوعية الزجاجية والخزفية السمراء اللون البدعية المطلية بالرسوم الزرقاء الجميلة، التى كانت تستعمل على موائد الفراعنة تشهد لمحتويات قصورهم بعظم القيمة ونفائس الأثاث. ولهذا قارن الأثريون عصر هذه الفنون الجميلة بعصر لويس الخامس عشر الذى اعتبر قصره مثال الرقى والتقدم فى الفنون الجميلة. لمزيد من مقالات د.طه عبدالعليم