دعاني إلي منزلي لإجراء حوار فرحبت بلا تردد. إنه الشيخ الجليل فضيلة الدكتور أسامه الأزهري. استمر الحوار ساعتين ونصف الساعة بلا توقف حول قضايا متداخلة دينيا وفلسفيا منها العلاقة بين الغزالي وابن رشد مع بيان أسباب الخلاف بينهما، ومنها العلاقة بين الآخرة والدنيا في سياق مفهوم الحقيقة ومنها التلاحم بين الاخوان المسلمين والشيعة بزعامة سيد قطب استناداً إلي كتابه المعنون «في ظلال القرآن». وفي نهاية المطاف طلب الشيخ الجليل مواصلة الحوار مستقبلا فاستجبت أيضا بلا تردد. والسؤال إذن: ما المناسبة التي مهدت لهذا اللقاء؟ المناسبة دعوة كل منا للمشاركة في ندوة عقدها المجلس القومي لحقوق الانسان في هذا الشهر تحت عنوان «دور مؤسسات التوعية لمواجهة التطرف وخطاب الكراهية». ألقيت بحثي وكان عنوانه «إشكالية ورقة العمل» ومفاده أن ورقة العمل لهذا المؤتمر تنطوي علي إشكالية، أي تناقض يلزم إزالته بفكرة جديدة. وكان التناقض، في رأيي، كامنا في العلاقة بين المقدمات والنتيجة. فالمقدمات محصورة في قرارات الأممالمتحدة ومجلس الأمن في ضرورة القضاء علي الجماعات الارهابيه التي تتسم بالتطرف والتعصب والعنف، وضرورة مواجهتها بالدعوة إلي التسامح وقبول الآخر. ومع ذلك فقد جاءت النتيجة علي نحو غير مرغوب فيه، وهو تصاعد الارهاب من غير هبوط وما لازمه من تدهور حالة حقوق الانسان. والسؤال إذن: لماذا جاءت النتيجة متناقضة مع المقدمات؟ جوابي مردود الي غموض الألفاظ المتداولة في شأن مكافحة الإرهاب، وهي بالتحديد الدين والتطرف والتعصب وقبول الآخر والتسامح. والسؤال إذن: ما الدين؟ الدين له معنيان: الدين بمعني الإيمان والدين بمعني معتقد. في اللغة العربية الإيمان هو التصديق، وفي الشرع هو التصديق بالقلب برسالة. والرسالة إخبار وبيان. وكذلك في اللغة اللاتينية لفظ credo يعني القلب. أما الدين بمعني معتقد فمعناه جملة القرارات والفتاوي التي تصدرها المجامع الدينية ويلتزم بها المؤمن وإلا فإنه يُتهم بالكفر، وإن لم يذعن يُقتل. ويترتب علي ذلك أن يكون المعتقد هو المطلق. والمطلق واحد بالضرورة. فماذا يحدث إذا تعددت المطلقات؟ صراع المطلقات حتي يقضي مطلق علي باقي المطلقات. الأديان إذن بمعني المعتقدات تكون سببآ في إفراز الإرهاب وإشعال الحروب. ويسمي الإرهاب، في هذه الحالة، بأنه ارهاب ديني. ومن هنا فإن لفظ التطرف الوارد في ورقة العمل لا يستقيم مع تناول لفظ الإرهاب الديني. وإذا غامرت وقلت إن التطرف هو التعصب فأنت مطالب بتحديد معني التعصب. فهذا اللفظ هو ترجمة للفظ الانجليزي fanaticism وأصله اللاتيني fanum ويعني المعبد. والسؤال إذن: ماذا يقال في المعبد من ألفاظ دينية بحيث تفضي إلى إفراز التعصب. وإذا تحدثت بعد ذلك عن العنف فأنت لن تقصد إلا العنف الديني، وهو بهذا المعني يكون مرادفاً للتعصب الديني. أما التسامح فإشكاليته تكمن في هذا السؤال: هل نتسامح مع المتعصب؟ وإذا كان المتعصب ارهابيا فهل نتسامح مع الإرهابي؟ وإذا سامحناه فلماذا نحاربه؟ يبقي بعد ذلك مصطلح قبول الآخر. والسؤال إذن : هل يعني قبول الآخر قبول الإخوان المسلمين؟ وإذا كان الجواب بالايجاب فلماذا نطاردهم؟ ومن هنا يكون مصطلح قبول الآخر خادعاً ودافعاً إلي تجاهل الإرهاب الذي يمارسه هؤلاء. وتأسيساً علي ذلك يمكن القول إن الألفاظ المتداولة في قرارات منظمة الأممالمتحدة أو منظمة اليونسكو تُضعف من مواجهة الإرهاب. ومن هنا جاء التناقض بين المقدمات والنتيجة في زورقة العملس. والسؤال إذن: هل في الإمكان إزالة هذا التناقض؟ هذا التناقض ليس في الإمكان إزالته إذا التزمنا المعني الثاني للدين وهو أنه معتقد وما يترتب علي هذا المعني من لزوم الدخول في صراع معتقدات. أما إذا التزمنا المعتقد على أنه محصلة التداخل بين العقل والرسالة الدينية فإن من شأن هذا التداخل أن يفضي إلى نسبية فهم تلك الرسالة، أي يفضي إلى الفهم العلماني باعتبار أن العلمانية هي التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق. وهي بهذا التعريف تقف ضد الأصولية الدينية التي هي التفكير في النسبي بما هو مطلق وليس بما هو نسبي. ويترتب علي ذلك أنه إذا أردنا التحرر من تيار الأصولية الدينية فعلينا تأسيس تيار علماني. والسؤال إذن: ماذا يترتب على دوام قوة التيار الأصولي؟ أن يصبح حق الحياة في خطر. لماذا؟ لانه إذا كان الإرهاب هو أعلي مراحل الأصولية الدينية فهذا معناه أن القتل لازم منها. والقتل هنا يعني حق الأصولي في سلب الحياة من الآخر دون محاكمة. والسؤال اذن : هل من حقه أن ينفذ هذا القتل؟ أظن أن الجواب بالسلب، وإذا كان كذلك فان هذا الجواب يستلزم أمرين: الأمر الأول إحداث تغيير في البند الثالث من الإعلان العالمي لحقوق الانسان والذي ينص علي حق الحياة والحرية والأمن بحيث يوضع «حق الحياة» لوحده في مفتتح الإعلان لأنه لا معني للحرية أو الأمن وحق الحياة مهدد. ويترتب علي ذلك إحداث تعديل في القانون الجنائي وهذا هو الأمر الثاني، لأن هذا القانون في صياغته الراهنة يشترط ارتكاب افعلب القتل عن عمد واصرار، أما افكرب القتل قبل حدوث الفعل فليس وارداً في الصياغة. ومن هنا يلزم التغيير بحيث يحاكم الإرهابي عندما يثبت أنه «يفكر» في «فعل» القتل. وإثر الانتهاء من إلقاء كلمتي كان المتحدث الثاني هو فضيلة الشيخ الدكتور أسامه الأزهري. وقد أيد بعض ما قلته وبالأخص مركزية الحياة. ولكنه عندما تناولها أعطاها معني قرآنيا، وما يلزم عنه من نزعة انسانية تُضاف إلي معني الحياة، ومن ثم يصبح هذا المعني الجديد مقاوماً للارهاب برؤية اسلامية. لمزيد من مقالات مراد وهبة;