إذا صحّ ما قيل عن ان الهزيمة يتيمة والنصر متعدد الاباء فإن تاريخنا العربى المعاصر يقدم العديد من الامثلة، وباستثناء الموقف السياسى ذى البعد الاخلاقى الذى اتخذه الزعيم عبد الناصر فى التاسع من يونيو عام 1967 وهو التنحى وتحمل المسئولية كاملة عن كل ما حدث فى حرب الايام الستة فإن السائد فى هذا السياق كان على النقيض من ذلك، فقد تنافس قادة وجنرالات ومفكرون على تبرئة الذات من كوارث عصفت بالعالم العربى ومنها ما أتى على الاخضر واليابس والاحمر أيضا لفرط ما سال من دم شربته الرمال فى الطريق ولم يعثر على المصبّ ! واخر الامثلة ما حدث فى الموصل، المدينة العربية التى حملت اسم ام الربيعين، فبعد ان استباحتها داعش بتوحش غير مسبوق حتى فى غزو المغول حررت أخيرا من ذلك الدنس، وشارك فى هذه المهمة الوطنية والانسانية العسيرة العراقيون من مختلف الاطياف، واذا كنا نستخدم مصطلح الاطياف فذلك تجنبا للسقوط فى معجم المصطلحات الجديد ومنه كلمة الطوائف، بالطبع لم تكن هزيمة الموصل لحظة اجتاحتها داعش لتشذ عن القاعدة، فما من اب ادعى ان تلك الهزيمة ابنته لكن النصر الآن يتعدد اباؤه شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وربما فى جهة خامسة خارج البوصلات كلها . ان تعدد اباء النصر يعنى بالضرورة اقتسام الغنائم ان كان هناك غنائم، لكن الموصل بدءا من جامع النور والمئذنة الحدباء التى قارب عمرها على الالف عام وليس انتهاء بالمتحف الحضارى اصبحت اطلالا، والغنائم فى مثل هذه الحالات النادرة فى التاريخ تصبح مغارم لأن اعادة ربيع واحد وليس ربيعين للموصل امر باهظ التكلفة، ورغم حالة الارتياح لدى العديد من دول العالم اضافة الى العالم العربى من تطهير الموصل الا ان المفارقة فى تاريخنا الحديث هى ان التحرير كان لعدة عقود مقترنا فقط بحيفا ويافا والناصرة واللد وشقيقاتهن فى فلسطين، وكان القاسم المشترك الوحيد بين ورثة العباسيين فى بغداد وورثة الامويين فى دمشق هو شعار تحرير القدس لكن التوأمين اللدودين من بعث بغدادودمشق تحاربا وتصارعا معا اكثر مما اشتركا فى حرب ضد عدو مصيرى ومشترك وبعيدا عن هذا الشجن، فإن القاموس السياسى الجديد الذى لم يدخل بعد لحسن الحظ الى مناهج الدراسة فى كليات العلوم السياسية تبدلت دلالات مفرداته، فاللاجئون والنازحون والعالقون صفات تحتاج الى تحديد، رغم انها كانت لعدة عقود حكرا على الشعب الفلسطينى ، فاللاجيء الآن سورى وعراقى او يمنى او ليبى وكذلك النازح والعالق، وفى اللحظة التى اعلن فيها استعادة حلب التى نافست الموصل فى تاريخنا على الالقاب الذهبية والتى سميت الشهباء، تذكرت على الفور ما كتبه الشاعر محمود درويش عام 1982 فى قصيدته مديح الظل العالى وكانت المناسبة تراجيدية بامتياز وهى اجتياح بيروت قال محمود يومئذ : ندعو لأندلس ان حوصرت حلب، وكأنه زرقاء الشام لا زرقاء اليمامة التى رأت عن بعد ما سوف يجرى ! الاستثنائية الاخلاقية فى موقف عبد الناصر من حرب حزيران لم تتكرر، ورغم ان الرجل قبل بتبنى الهزيمة الا ان العرب من الماء الى الماء وقفوا معه ، اما شعبه فقد ملأ فضاء القاهرة بمعطف دافيء وحنون سقط عليه الرجل بكامل وعيه وعاد الى ممارسة دوره فكانت حرب الاستنزاف، لهذا فهو ان لم يكن ابا لانتصار اكتوبر فهو جد هذا الانتصار ! كان تحمل عبد الناصر لمسئولية الهزيمة درسا ميدانيا بليغا فى النقد الذاتي، وكنا نتمنى لو ان هذا النقد تنامى ليشمل كل جوانب حياتنا العربية! ولا ادرى كم من الخيال السياسى او الكوابيس الكافكاوية يحتاج العربى الان كى يتصور تكرار ما جرى فى حلب والموصل فى سائر العواصم العربية، وأى ربيع كنا سننعم بياسمينه وبلابله، وقبل ان تنقشع سحابة الدخان عن الافق ويتضح الخريف بكامل عريه وعواصفه تحت قناع الربيع هناك من ادعوا انهم بمقالة واحدة أنبتوا الزهر فى الارض الخراب، وتخيل البعض ممن احترفوا امتطاء الموجات ان كلمة قالها هنا او هناك بمحض المصادفة كانت السنونو الذى اعلن الربيع كما يقول مثل انجليزي، ان ما سمعناه خلال بضعة اعوام ربما كانت الاعجف فى تاريخنا الحديث كان البومة التى تحدث عنها هيجل والتى تنعق عند الغروب فى الأفق . هل ابتعدنا كثيرا عن يُتم الهزائم ووفرة الاباء للنصر؟ الارجح اننا لا نزال فى الصميم من هذه الثنائية، وقد يفيدنا فى هذا السياق ما يمكن ان نستوحيه من حكاية رمزية عن الضفدع والحرباء، فالضفدع تعبير عن نيتها فى الخير كانت تنقل قطرات من الماء الى جسد يحترق، اما الحرباء فقد كانت تواصل الفحيح لاشعال النار، والحقيقة ان ما فعلته الضفدعة لم يطفيء الحريق وما اقترفته الحرباء لم يشعل النار والمسألة تبقى فى نطاق النوايا، لهذا نستذكر ما قاله الشاعر العربى ذات ليلة كهذه اشتدت فيها مراوغة الثعالب واوشك حابل الدم ان يختلط بنابل الماء، قال ما معناه من لا يملك خيلا يهديها او مالا عليه ان يصمت وبمعنى أدق فليسعد النطق ان لم يسعد الحال! والعربى الجريح النازف من الخاصرتين والذى سال على رائحة دمه لعاب الضباع ليس بحاجة لمن يهجوه أو يقرعه أو ينكأ جراحه، انه بحاجة الى التبرع بما هو أغلى من الدم وهو كشف المستور واسقاط الاقنعة، لأن لدينا من رماد الكتب والمتاحف والمدن والبيوت ما يكفى لأن تمتليء سماؤنا بالعنقاوات ولدينا من فائض الموت ما يكفى لاستدعاء قيامة عاجلة !! لمزيد من مقالات خيرى منصور;