ملخص مانُشر:مدرس موسيقى غريب الأطوار يهيم بأم كلثوم ويسعى لمقابلتها بعد وفاة القصبجي حالما بأن يأخذ مكان الراحل وراءها وعندما طلبت منه أن يعزف أثناء بروفة مع فرقتها يرتبك فيثير ضحكا مكتوما يتفجر بتعليق مازح وحَسن النية من أم كلثوم فيجن منطلقا في ركض ذاهل من الزمالك حتى بيته في المنصورة ليغيب داخله شهرين ويخرج مُعلنا أنه القصبجي ويواصل انهياره حتى يدخل مصحة نفسية كبيرة يظل بها عشرين سنة يغني بشجن أغنية وحيدة هي « رق الحبيب» وفجأة يتحول الشجن إلى فرح؟ «رق الحبيب وواعدنى يوم/ وكان له مدة غايب عنى حرمت عينى الليل م النوم/ لاجل النهار مايطمِّني سهرت أستناه/ واسمع كلامى معاه واشوف خياله قاعد جنبي» لأول مرة خلال أعوامه العشرين فى المصحة، وقف قصب يغنى فى الصباح التالى لظهور الفرح فى أغنيته أمام بوابة قسم الحريم. كان يغنى المقطع ثم يتوقف عن الغناء داقا بيديه الاثنتين على البوابة الحديدية الضخمة فى صدر السور الثقيل العالى الذى يفصل القسم عن بقية أقسام «المصحة». كانت الدكتورة «مى الشريف» قد ركنت سيارتها الجولف الصغيرة لتوها أمام مبنى الإدارة القريب قادمة إلى القسم مبكرة كعادتها، وتوقفت غير بعيد تراقبه. كانت تسمع التومرجية حارسة البوابة ذات الصوت الأجش ترد عليه من الداخل بتكاسل كلما دق: «روح ياقصب». يغنى ثم يدق وتسمع « روح ياقصب». ولا يتوقف عن الغناء والدق بينما تظل التومرجية المناوِبة تجيبه من الداخل: «روح ياقصب». وكانت تلون ردها قليلا مبدلة ترتيب الكلمتين بين الحين والحين: «ياقصب روح». ضحكت مى لهذه المباراة المملة الصبور. لكنها كانت تحس بتعاطف عميق مع قصب العاشق. ليس تعاطفا مع جنونه. بل تعاطفا مع العقل الذى تعرف أنه يختبئ خلف كل جنون. لابد أن وراء هذه الأغنية الوحيدة التى يطلقها فى عالمه الخارجى ثمة عالم موازٍ عميق التغلغل فى داخله. عالم من الحب مليء بالوعود التى تجعل أغنيته تستمر. كان تعاطفها مع قصب، أحد مشاهير من يسمونهم فى المصحة «مجانين الحب»، تعاطفا مع نفسها من طرف بعيد. نفسها الأخرى التى لا يحس بها أحد سواها وهى تقترب من الأربعين، فى زواج عمره خمسة عشر عاما اعتراه السأم، سأم البنت الرقيقة التى لا تزال داخلها بكامل روحها، «قطة المدرسة» و «قطة الكلية» وأخيرا:«قطة الطب النفسى اللذيذة» كما ظل يسميها فيما بينهم زملاؤها الرجال فى التخصص، وقد نقلت إليها الاسم إحدى صديقاتها من الزميلات عرفته مما يحكيه لها زوجها عن ثرثرات الأطباء حين تخلو جلساتهم من الطبيبات. كان قصب قد توقف عن الغناء وأخذ يدق باب الحريم بيديه دقا عنيفا متوترا. خطت مى ولمست كتفه هامسة «خلاص ياقصب». التفت إلى البهجة التى يشع بها وجهها المُجامِل الحلو وتهدَّلت ذراعاه فى جنبيه وهو يُحدِّق فى عينيها. معظم المرضى العقليين يحدقون فى عيون محادثيهم مباشرة بسهولة وتلقائية. هبة لا يمتلكها كثيرون من «الأصحاء» الذين بالكاد يستطيعون النظر فى عيون أطفالهم. الأطفال أيضا ينظرون فى عيون محادثيهم حتى يغادروا زمن الطفولة فتبدأ نظراتهم فى المُراوغة والهروب. رأت مى عينى «قصب» لا تزالان تنظران فى عينيها ووجدت عينيها لاتهربان من هذا التحديق الكسير. عينان كليلتان توشكان أن تكونا رماديتين لكن حلقتيهما الداخليتين تُظهران لونا بنيا شفافا حول البؤبؤين عميقى السواد. كان ينظر فى عينيها بينما ينظر إلى داخله وإلى بعيد فى اللحظة نفسها. سألته بود مُبهج عما يريد؟ فأخبرها أنه يريد لقاء «ثومة» و«بواب» الفيلا لا يريد أن يفتح له. وجدت نفسها تخبره دون إعداد أن «الست» ليست موجودة فى الفيلا فهى مسافرة. سألها بقلق:» مسافرة ؟ «فوجدت نفسها تدَّعى أن» ثومة» فى تونس وبعدها ستكون فى الجزائر. ستُحيى حفلين هناك وتعود بعد أسبوعين. ردَّد مُطرقا «أسبوعين؟» وانصرف هادئا متجها إلى حديقة المانجو والكافور وهو يتمتم: «أسبوعين. أسبوعين. أسبوعين». ومكثت تتابع ابتعاده مغمورة بمزيج من الإرهاف والوجل. ..................... برغم استغراب مدير المصحة ونائبيه أصرت الدكتورة مى وهى استشارية تعلو درجة النواب والأخصائيين، أن تشرف على « العلاج بالعمل» الذى تباشره المريضات الهادئات اللائى استقرت حالاتهن. ومن بين شتى أنواع ذلك « العلاج بالعمل « اختارت الخروج بالمريضات لجمع أوراق الأشجار المتساقطة من الكافور العتيق بحديقة المصحة الداخلية. كانت تعرف أن فى ظهر هذه الحديقة يقع سكن الأطباء فى الفيلا الخشبية التى عمرها مائة عام، فهل كانت توافر بوجودها فى هذا المكان فرصة للقاء يبدو عفويا بالنائب أحمد يوسف الذى سمعت أنه يعرف دقائق قصة قصب. شيء ما غامض بدأ يجذبها فيما تعرفه من مسيرة قصب ومصيره، ثم إن طبيبه، هذا النائب أحمد يوسف، ظل يلفت نظرها بصوته الهادئ ومداخلاته المقتحمة فى اللقاءات العلمية، وخجله الذى تحس أنه يخبئ جموحا تود لو تطل عليه. مُجرَّد أن تطل عليه؟ وكانت السكينة السابغة فى ظلال أشجار هذه الحديقة التى تبدو فطرية لعدم الاعتناء بها تمنحها فرصة لتخلو إلى نفسها البكر التى لم تذبل فيها « البنت «التى كانت، والتى تظل حية داخل كل أنثي، ويؤدى عدم إحساس الزوج بها أو تجاهلها إلى السبب الأعم فى سأم الزواجات ثم تعاستهن فانتهاء هذا الزواج أو استمراره ميتا. وهى كانت فى مرحلة السأم، تكبح داخلها توقا إلى تحليق لاتعرف ملامحه، لكنها تحس بانتمائه إلى البنت التى لم تزل ترفرف داخلها، وتزقزق؟ ظلال رطيبة رهيفة ونور خافت كانت تحرسه هامات الأشجار الوارفة مئوية الأعمار. ونسائم عَطِرة كانت جذوع الأشجار الراسخة تجعلها تدور حولها فى دوامات صغيرة لامرئية، وتندفع كأنما تلهو بابتراد حلو يلف المكان كله فى أشد نهارات الصيف قيظاً. وكان العمل فى هذا المكان يجعل المريضات أهدأ، يباشرنه بوداعة وتهامس خافت مع أطيافهن، أو بين بعضهن البعض وإن دون ترابط بين ما يتبادلنه من كلمات أو جُمل. أما الرجال القليلون من المرضى الهادئين المصرح لهم بالتجول خارج العنابر فكانوا يتناثرون فى المكان الواسع بين الأشجار. يهيمون على أطراف المشهد ويعبرونه أحيانا لكنهم لايمكثون. أحدهم قصب الذى كان يدندن بخفوت مقطعا غير واضح الكلمات من أغنيته الوحيدة الأثيرة، و يقترب! أقبل قصب متمهلا وتوقف على مقربة من الدكتورة مى سائلا ومجيبا فى آن: « تلات ايام وترجع ثومة من السفر؟ «. فاجأتها قدرته على حساب مرور الأيام بدون تواريخ ولا رزنامة ولا مفكرة. إنها تعرف دقة حسابه لأنها تتذكر تاريخ اليوم الذى اضطرت للكذب عليه فيه حتى ينصرف عن بوابة قسم الحريم. كان يوما انفجاريا فى ساحة زواجها الذى يمحو البنت داخلها، يُحنِّط القطة التى كانت. هى تعودت أن تكتب يومياتها بانتظام قبل أن تنام منذ كانت فى السادسة عشر. وهى تتذكر تاريخ اليوم الذى كتبت فيه عن قصب ومجيئه المبكر إلى بوابة قسم الحريم يطرقها بيديه. كتبت أن خياله الفصامي، خيال الفتى الذى لم يكبر أبدا، أقام لمحبوبته « أم كلثوم» قصرا داخل أسوار تعلوها لافتة « قسم الحريم»، فكأنها كل حريم العالم لديه، فتاة حبه التى لم تكبر أبدا هى الأخري، لأنه لم يرها كبيرة منذ هام بها فى مرحلة باكرة من عمره، حب زهرة عمره، صدفته الحانية التى يعيش داخلها محميا من قسوة الخواء والانفراد ووهن الشيخوخة والوَحشة والتوحُّش. وفى حديقة المستشفى فى ذلك العصر الظليل، ردت الطبيبة على سؤال قصب عن موعد عودة أم كلثوم قائلة بتودُّدِها البناتى البهيج: «تقريبا تقريبا.. تلات ايام ياقصب». ورد عليها بحدة «لأ. مش تقريبا. بالظبط تلات ايام» وانصرف يدندن بين الأشجار بصوت مسموع: «من كتر شوقى سبقت عمرى/ وشُفت بكره والوقت بدرى وإيه يفيد الزمن/ مع اللى عاش فى الخيال واللى فى قلبه سكن/ أنعم عليه بالوصال» ..................... من جديد، استطاعت «مي» تأجيل عودة أم كلثوم، ولفترة أطول. رأت «قصب» فى اليوم الأول بعد مرور الأسبوعين يقف أمام سيارتها فور عبورها حاجز المدخل فى الصباح. لم تستطع الحركة وهبطت باذلة مجهودا كبيرا للسيطرة على انفعالها وهى تتجه إليه. وما أن تأملته عن قرب حتى شعرت بحنان وتعاطف مؤثرين وكأنها تنظر إلى طفل شاخ فجأة. وقفز إلى خاطرها حفل ثالث لأم كلثوم ستحييه هذه المرة ليس فى المغرب بل فى باريس، باريس دفعة واحدة، وفى قاعة الأوليمبيا الشهيرة لا غيرها، وستمكث فى باريس شهرا كاملا لأنها ستدخل مستشفى هناك لتجرى بعض التحاليل للاطمئنان على صحتها لأنها شعرت بإرهاق بسيط بعد حفلى تونسوالجزائر! شمل جَزَعٌ عميق كيان «قصب»، واستدار محنيا فى بطء ثم مضى يبتعد عائم الخطو واهنا، وكان يترنح وهو يتمتم فى ضراعة: «يصونك المولى ويحفظك ياثومة .. يصونك المولى ويحفظك.. يصونك ويحفظك». ..................... زَلزَل الخبر الدكتورة مي. انفلتت منها طبيعة البنت سريعة التأثر قريبة الدمع والمطمورة تحت غطاء الثامنة والثلاثين لطبيبة مستشارة، زوجة رجل مرموق، وأم لولدين. لم تكف عن البكاء ولم تستطع كبح هذا البكاء فى غرفة الأطباء بين زملائها وزميلاتها. اقترب منها الطبيب أحمد يوسف ليواسيها فنهضت وخرجت بصحبته وقادتهما خطواتهما الشاردة إلى حديقة المصحة الخارجية حيث ركنت سيارتها فى المساحة المرصوفة بين الأشجار. كانت وهى تستعيد ملابسات الخبر الأليم تحس أن أحمد يوسف هو من سيُقدِّر عمق إحساسها بالذنب تجاه ما ألم بقصب، وتأمل أن يقدم لها ما يخفف عنها. فتحت له باب سيارتها الأيمن تدعوه للدخول قبل أن تستدير وتفتح بابها الأيسر وتجلس وراء عجلة القيادة. لم تُدِر المحرك وراحت تنظر إليه بعينيها الدامعتين سائلة إياه أن يتكلم أو تتكلم هي. كان يعرف نبأ انتحار « قصب « مُنذ الصباح. بل رآه مشنوقا برجل بنطلون بيجامته المربوط فى حديد النافذة التى ركع ميتاً تحتها. أخبرها أن هيئته لم تكن تنبئ أبدا عن موت باسفكسيا الخنق شنقا. لم تكن عيناه جاحظتين بل مغمضتين فى سلام. لم يكن لسانه يتدلى من فمه ولم تكن به زُرقة ولا امتقاع بل شحوب يعلوه عرق بارد ظل مُنعقِدا على جبينه. بدا مضيئا بشكل ما. وكان المرضى يطنون حول عنبره فى ذعر وحيرة، وكل منهم يخبر الآخر بطريقته: « مات « « مات» « مات». كانوا يأتون من العنابر البعيدة وكأنهم أسراب نمل تتخاطب فيما بينها بلغة سريه. كانوا يشمون رائحة الموت ويأتون. يمرون خارج النافذة التى ركع تحتها جثمان « قصب» مهمهمين أو متقلصى الملامح ثم يسارعون بالابتعاد. جاء على وجه الخصوص مشاهير مجانين الحب فى المصحة: « روز وردة حمرا» و«وميكا المسكين» «وحموده النعسان» و«فتحى سِملات» وغيرهم. أغربهم كان «إيهود رب الجنود»، اليهودى المصرى الذى هاجر أهله وأهل محبوبة صباه وتركوه مُراهقا وحيدا منذ خمسين عاما فى مصر. جاء كابيا محنى الظهر كثيرا يحمل خُرجه المُتسخ الذى يجمع فيه حصاد جولاته الهائمة فى أرجاء المستشفى ليوزعها على من يظنهم «رعاياه» من زملائه فى عنبر «المدفونين» الذين كان أقدمهم. عنبر المرضى المزمنين الذين تجاوز معظمهم أكثر من ربع قرن نزلاء المصحة دون أن يأتى لزيارتهم أحد أو يسأل عنهم أحد. جلس لصق الجدار المفغورة فيه تلك النافذة المشئومة. تكور على نفسه وكأنه رجع جنينا فى بطن أمه ودفن رأسه بين ركبتيه وأجهش فى البكاء بصوته الجهير العريض الذى لم يسمعه أحد من قبل. ماذا حدث لقصب؟ مالذى جد فى أيامه المتشابهة داخل المصحة ليأتى بتصرف ساحق على هذا النحو؟ كان أحمد يسأل نفسه متحيرا وهو ذاهل؟ لم يكن يعرف ملابسات تأجُّج شوق « قصب» للقاء «ثومة» بعد سنوات من الانسياب الهادئ لهذا الشوق. لم يكن يعرف الدور الذى ساهمت به «مي» فى نفخ نيران هذا الشوق لدى العاشق الأبدى بوهم تهدئته بينما كانت تثير ضِرام روحه. كانت فى سرها تدين نفسها وتتوق للبوح. وأحست بأن من تجلس إلى جواره هو من يليق ببوحها، فانهارت وراء مقود السيارة المتوقفة تبكى لائمة نفسها، وقد التفت إليها أحمد، يُصغى مدهوشا.. حكت له عن كذبتها البيضاء الطويلة مع «قصب». والنهاية «السوداء «التى ترى أن كذبتها أوصلته إليها. لماذا لم تر أن قصب كان يعد الأيام على مفاصل أصابعه، ويعد دقائقها على إيقاع أنفاسة، وثوانيها على وجيب قلبه؟..فى اليوم الأول بعد انتهاء مهلة الشهر التى حددتها لعودة أم كلثوم، حكوا لها أن قصب جاء مع أول أضواء الفجر وتوقف خارج بوابة قسم الحريم وأخذ يُغني، بشجن مؤثر، وفى خفوت كأنه يغنى لنفسه: « ولما قرب ميعاد حبيبي/ ورُحت أقابله هنَّيت فؤادى على نصيبي/ من قرب وصله بس اللى كان فاضل ليَّه بس اللى كان فاضل ليَّه بس اللى كان فاضل ليَّه» ظل يكرر تلك الشطرة وكأنه اسطوانة علَّقت. يُرددها فى ذلك الصباح الباكر بتمزق مؤلم حتى أن تومرجية البوابة السمينة خشنة الصوت استيقظت على صوته مقبوضة الأنفاس موجوعة الجسم مهدودة. فتحت نافذة المراقبة الصغيرة فى البوابة وصرخت فيه بصوتها الأجش: «فاضل لك أيه ياقصب.. قول وخلصنا». ولم يقل. بل انتقل إلى الكوبليه التالى يغنيه بتماسك أكثر وإن بالشجن ذاته: «لما خطر على فكري/ حير أمرى والقرب سبب تعذيبى ولقيتنى خايف على عمري/ ليروح منِّى من غير مااشوف حُسن حبيبى». لابد أن هذا المقطع حرك شيئا خافيا فى قلب السمينة البائسة خلف البوابة فاستدرجها للبكاء. أخذت تنتحب برغم أن غناء هذا المقطع كان يأتيها بتطريب ينطوى على إحساس بأملٍ راعِش. لعل قصب سلطن نفسه وهو يغنى فى فضاء الصباح الباكر الرحيب فلم ينتبه فى البدء لذلك الانتحاب وراء البوابة الحديدية العالية الموصدة. ولم يلبث الانتحاب حتى علت شهقاته فاخترق غناء قصب وهوى بتطريبه. سكت قصب فى هلع وهو يصغى للنحيب الفاجع فى الداخل. ولابد أن خاطرا مريعا شق طريقه إلى ذهنه وجعله ينهال على البوابة طرقا بقبضتيه كلتاهما صارخا: «فيه أيه ياعم. صارحنى ياعم. انت بتعيَّط ليه. ثومة مالها. النهارده معاد رجوعها. اتأخرِت ليه. فيه أيه «. فتحت المرأة نافذة المراقبة الصغيرة فى البوابة مرة ثانية. أطلت على قصب بعينين محمرتين أنهكهما البكاء ثم وضعت فمها المتقلص المرتعش فى المربع الضئيل وكانت ترجوه «كفاية ياقصب. كفاية. روح الله لا يسيئك». لكن حمرة العينين الباكيتين والفم المرتعش زادا من جنون طَرقِه على الباب وأعليا زعيق سؤاله «ثومه مالها ؟ ثومه مالها؟». وتماسك الفم المرتعش وهو يطل من النافذة الصغيرة هذه المرة ويقذف: «ثومه ماتت من سنين وشبعت موت ياقصب. حرام عليك تقَطَّع قلوبنا من طلعة النهار. روح بقى وخلَّصنا. روح». وأغلقت نافذة البوابة بضيق وعنف. تصف مى من نتف ما جمعته من أفواه متفرقة وما ملأه تصورها من ثغرات عما أعقب تلك اللحظة بأنه صمت غريب ساد كل شيء. كأن الدنيا كلها تآزرت على السكوت. انبثقت فى هذا الصباح الباكر لحظة حداد مذهلة وكأن خبر وفاة أم كلثوم أُعلن للتو ولم تمض عليه سنوات وسنوات. كأن قصب لم يكن وحده من تلقى الخبر بل تلقته أوراق الشجر التى كفت عن الهسيس والعصافير التى حبست شقشقاتها ونسائم الصبح التى جمدت. سكتت الدنيا ولم يكن يُسمع فيها غير خطو « قصب « الوئيد، يجرجر قدميه فى التراب وورق الشجر المتساقط الجاف منسحبا إلى عنبره داخل أسوار « قسم الرجال». ويكمل أحمد ما توقفت عنده « مي» بما جمعه من ثرثرات وتصورات سمعها وأعاد به بناء المشهد الختامي: دخل قصب العنبر الكابى متساحبا إلى ركنه الأقصى حتى لا يوقظ زملاءه من المرضى الغارقين فى النوم بفعل التعب مع هلاوسهم وهواجسهم فى النهار الفائت وتأثير جرعة المهدئات والمنومات المسائية. وكان أكثر هدوءً وهو يخلع بنطلون بيجامته الكميش فى الضوء الكابى تحت النافذة الطويلة فوق رأسه. برم رِجليِّ البنطلون فى حبل لا يجاوز المترين وربط طرفه فى أحد قضبان النافذة وصنع من الطرف الآخر أنشوطة لفها حول عنقه. ذرف دمعتين سالتا على وجهه الكهل المُختلج ووضع راحتيه على قلبه قبل أن يركع كأنه يصلى لتتمكن الأنشوطة من عنقه. لم تند عنه شهقة. ولم ينتبه أحد لموته حتى علت الشمس وجاء ممرضو مناوبة النهار فرأوه. حلُّوا عن عنقه الأنشوطة التى كانت مرتخية وتقطع بأنه لم يمت شنقا. والأرجح أن قلبه الذى وسَّده براحتيه هو الذى كف عن الخفقان مع اختفاء عالم عزيز من حلم رائق طويل، استمر معه فتيا نديا برغم الجفاف والتعاسة والوحشة على امتداد عشرين عاما، بل أكثر. كيف اختفى هذا العالم وذلك الحلم؟ سؤال طاف بخاطر أحمد وهو يستعيد ما أخبرته به مى عن كذبتها المتسلسلة. وفيما كان يفكر فى تبرئتها وجد أنه فى حاجة إلى التبرئة هو الآخر. خطر له احتمال ارتكابه لخطأ جسيم حين أوقف تناول قصب للأدوية النفسية، فجرَّده مما يصد سهام التمادى فى تحويل توهماته إلى عالم ماثل ومُتجسد يطيح بفرضية التكيف ليحل بمكانها انتكاسة الجنون، الجنون الأخير، جنون ما قبل الموت. ورأي، أو أحب أن يرى موت قصب نهاية حتمية، كانت ستحدث ستحدث، بكذبة متسلسلة حسنة النية أو بدونها، فى ظل تعاطى أدوية نفسية أو فى انحسار هذا الظل. لقد هَرِمت أغنيته الوحيدة، وأذنت بالذبول والتلاشي، فلم يُسلِّم بذلك، جعل المحبوبة الغائبة تحيا ولها بيتٌ قريبٌ تسكنه وهذا البيت يدعوه للدخول. وكان بيت الجنون سيتقوض حتما مع أول لمسة لأصغر اختبار واقعى بمحاولة دخوله أو بعائق يؤجل هذا الدخول، أو بحقيقة تنسف بنيانه الوهمى كله. كان قصب فى تفاقم توهماته ميتا ميتا، وساقت له الأقدار من تؤجل له بؤس النهاية شهرا ونصف بإيجاد المحبوب وإن كان على سفر. ربع قرن متواصل من الحب المطلق زادته «هي» شهرا ونصف. إنه الحب حتى مطلق الحياة، أو حسم الموت، والذى لايقوى عليه غير المجانين. وهل هناك حب بغير جنون؟ فاجأها أحمد بالسؤال الذى فاجأه هو نفسه بعد إنهاء مرافعته التى هدَّأت قلقها وقلقه وإن لم تطمئنه. نظر فى عينيها ملتمسا الدعم قبل الرضا فلم تهرب من عينيه. وجدها تمسح دمعها وتردُّ إلى الخلف شعرها الذى تهدل على وجهها الجميل، تسوِّيه فتضيء بألقٍ حلوٍ يومض فى نظرة عينيها التى رآها بناتية تماما إليه. ثم وكأنها مسرنمة ويقظة فى آن، وجدت نفسها تتحرك بالسيارة وتتوق إلى الانطلاق فى لحظة دُوارٍ ضاغط، وكان مُستسلما لانطلاقها به. بينما كانا لا يعرفان معاً .. أى طريق يَسلُكان؟! (تمت)