«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حَبْل زغاريدها2
نشر في الأهرام اليومي يوم 15 - 02 - 2014

يقع قسم الأمراض النفسية في المستشفى العام القديم الكبير في ظهر عنابر الأطفال وملحق الباطنة . يبدو كمصحة منفصلة ، بائسة ومنسية ، في حديقة خلفية مهملة أو حوش ينمو في جنباته البوص والعشب .
يفصل بين عنبر الرجال وعنبر النساء فيه سور تتوسطه بوابة حديدية كبيرة مبطنة بالصاج المدهون بطلاء رمادي . حائل أبكم أقامه من أقامه حتى لا يُطل من هم وراء البوابة على من هم أمامها ، ولا يرى من أمامها ماوراءها . وسيلة مقبضة لتحاشي الهياجات والهيجانات التي افترضها ذهن من صمموا المكان . تصوروا أن الهيجانات يمكن أن تنشأ من رؤية نساء مريضات عقليا لرجال مرضى عقليا أو رجال مرضى عقليا لنساء مريضات عقليا . ظل ذلك « الفصل العنصري» ، كما أسميته أنت ، مُستقِرا والهدوء في استتباب حتى جاءت زغاريد كريمة ، بل حبل زغاريدها . تصاعدت الخبطات على البوابة الحديدية من داخل قسم الرجال ، واشتعلت صيحاتهم حامية . المشاهدون الذين صرفتهم من غرفتك أثناء مناظرة الحالة لم يخرجوا من القسم ، ظلوا متجمعين في الحوش الصغير أمام عنبر الحريم ينتظرون «النتيجة» .. النتيجة التي لاتخص أحدا منهم !
وإزاء ضوضاء خبط وصيحات المرضى الرجال وراء بوابة الحديد والصاج الرمادية ، ولغط جمهور المتفرجين اللجوجين أمامها ، اضطررت أن ترفع صوتك ، وتكفلت ملامح غضبك وسلطة معطفك الأبيض واستنفار مساعديك بكنس من بقوا من المتطفلين . تابعتهم حتى تأكدت أنهم صاروا خارج الباب القميء الذي بإغلاقه يتم عزل القسم عن بقية أجزاء المستشفى ، وقد أمرت بإغلاقه.
مع تمام تلاشي الفضوليين لم يعد هناك غير صوت الزغاريد المتواصلة وضربات الأيادى على حديد البوابة الرمادية وصيحات الرجال وراءها وثغاء النساء المريضات والممرضات والعاملات وراء ظهرك . مع ذلك شعرت أنت بهدوء مفاجئ غريب . كنت تقف متوسطا الحديقة الصغيرة الشعثة بين القسمين ، تحس بأن ذهنك يصفو وبأنك تدخل فى ألطف حالاتك داخل هذه المصحة التي كنت تحب حتى بؤسها . تحب تحررك فيها من ثقل أي رئيس ، وتحب أنك لم تكن وزميلك وصديقك من أيام المدرسة والكلية مجرد طبيبين نفسيين معتادين ، بل طبيبين نفسيين لمرضى فقراء ، بل أشد فقرا من كل الفقراء . كان هذا يُشبع جوعك المزمن للعواطف بطريقة معكوسة ، ويتيح لك تأمل نفسك بتأمل النفوس الإنسانية في أوهن حالاتها ، واخترت منذ البداية أن تكون متأملا يعمل طبيبا نفسيا بدافع الفضول وبمزاج الهواية.
كنت تريد اكتشاف ذاتك وأنت تطَّلع على خبايا ذوات الآخرين ، لعلك تفهم دوافع النفس الإنسانية التي طالما حيرتك فيما تراه داخلك ومن حولك . تسمح لنفسك بالتحيُّر وتنبذ صرامة خطوط التشخيص والعلاج فى الكتب. مكثت مجرد طبيب نائب لم تقدم شهادة الماجستير التي حصلت عليها لتظل نائبا فلا تترقى وظيفيا وينقلوك لمكان آخر. وكان انشغال رئيس القسم بعيادته الخاصة مُحررا لك ولزميلك من وضع الرجل الثانى . أنت و «مهدي » ، زميلك الوحيد ، وصديقك منذ أيام الصبا والشباب ، كنتما معا وواقعا الرجل الأول فى القسم ، وبمواصفات وجودكما الأصلي الذي لم يتغير منذ مشاغبات المدرسة المبكرة ، وشقاوة الصبيان ، ثم جنون المراهقين وتطلعات الشباب . لم يكن مهدي موجودا بالأمس لكنك موقن أنه سيرحب بكل ما قررته. وستدخلان فى متعة مناقشة «الحالة» كما اعتدتما مع كل حالة غريبة وأنتما تحتسيان الشاي في ركن الحديقة الشعثة الصغيرة بجانب عنبر الحريم . الشاى الذى تعده الممرضات غامقا كالحبر مترعا بالسكر وتحسه دائما يأتي في وقته برغم تواصل قدومه . تهفو الآن لكوب من هذا الشاي بينما ضربات أيادى المرضى الرجال على البوابة وجنون الزغاريد وأصوات المرضى والعاملين معك لم تعد توترك . كأنها فجأة تلاشت .
كنت فى لحظة صفائك العجيبة تلك ترى العشب الناحل تحت قدميك نضر الأعواد وأزهى خضرة ، وتطالع في سماء المكان المحدود زرقة فاتحة رحيبة لم تر أصفى منها في أي مكان وزمان آخرين . وتكتشف للحظتك شيئا رهيبا فى المصحات النفسية لكنك لا تنتعش بعثورك على هذا الاكتشاف ، بل تبتسم له فى أسى وفي صمت رائق يشبه الحزن الرقيق . هذه أماكن بلا صبوات وبلا ضحك . الصبوات تقتلها المهدئات والمطمئنات الكبرى والمنومات والصدمات الكهربائية والعزلة . والضحك يطمره الجنون الذى يغطى العقل تاركا له فرجة ضنينة فى الظلمة السابغة يطل منها على ما تبقى مرئيا في المحيط الضنين . وكل ما يتبقى يكون ضئيلا وشحيحا ولا يشغل غير أجزاء معتمة داخل نفوس تغرقها عتامات الجنون. ذكريات قهر أو قهر معكوس وكوابيس عجز وقلة حيلة. ثم تأتى المصحة بأسوارها وأبوابها الموصدة ونوافذها المصفحة بالقضبان وأدويتها المدوخة والمخدرة. فمن أين تأتي الصبوة وكيف يتهادى الضحك . هذا موت. موت فى الحياة حاولت مع صديقك مهدي أن تخترقاه . فتحتما مرة على سبيل التجريب كل الأبواب وحولتما جلسة الحديقة الصغيرة إلى حلقة غمز بريء ومزاح . لكن الأرض التى حاولتما حرثها وزرعها بدت جدباء موغلة فى الجدب. المرضى والمريضات لم يتضاحكوا ولا تمازحوا ولا حتى تهارشوا برغم تحريرهم من ذلك «الفصل العنصري» . أنت وصديقك وطاقم الممرضات والتومرجية من كانوا يلتقطون ماوراء توريات الغمز ، و يغرقون ضحكا على مفارقات المرضى اللاهية. تحول المجانين إلى مضحكين لغيرهم ممن لم يفترس القهر والقهر المعكوس أدمغتهم التي لم تخمدها العقاقير ولا مسحتها صعقات الكهرباء. بعد تلك المرة لم تعودا إلى فتح البوابة بين القسمين ولم تعودا تُحييان حلقة المزاح فى وسط الحديقة الصغيرة ، لكن الضربات تتصاعد الآن على البوابة ، فلا تسمع الصوت بل يخيل لك أنك تراه . يلوح صوت الضربات وكأنه يفجر مصابيح طائرة ينتثر رشاش ضوؤها تحت رفرفة الأعلام الملونة فى حبل الزغاريد الذي لم ينقطع امتداده . يتجاوز الحبل الطائر حجرة الطبيب المناوب وفضاء الحديقة الصغيرة وينطلق صاعدا في زرقة السماء الصافية الفسيحة . يدور عنيدا مهتاجا فوق المكان المسكين .
عادت إليك الأصوات بضجيجها العاري من جديد ، واستطعت أن تميز فى صخبها وراء البوابة الرمادية جئير الفصامى «جعورة» ذي الصوت القعقاع العالى دائما «خلونا نروح الفرح ربى يخليكم». وفى أعقابه سمعت الترديد المعتاد للصوت الرفيع لحلمي مربوط اللسان والمريض بالذهان الصرعى يردد كلمات «جعورة» نفسها بلسانه الملتصق بقاع فمه « دادُّونا دوح ددح دابى دادِّيكم». واستطعت أن تميز بعض النداءات خلف البوابة. «عايز حلويات. حلويات. حتة زوغيَّرة حلويات « « نشرب شربات أحمر « « والله والله هانقعد مؤدبين فى الصوان» «والله والله هانقعد » ، أصوات الفقر والقهر والجنون التي تحول الرجال إلى أطفال ، بل مسوخ أطفال ، يتساوى بينهم من وُلِدوا بالتخلف العقلي مع من أتلف عقولهم عته مبكر في نهايات الجنون المزمن أو في أعقاب علاج مكثف غشوم . «أشوف فرقة.. رقاصة.. حلوة» ، كان الأخير صوت محسن أصغر النزلاء بوجهه الأسمر الطريف وعيونه الجميلة فاحمة السواد والمفتوحة على اتساعها دائما وهو يصيغ كلماته باختزال وترجيع الفصام المبكر، فصام المراهقة ، الفصام «الهيبيفريني» .
رجَّحت أن هؤلاء وحدهم من يصرخ وراء البوابة ويدق عليها بالقبضات والأكف ، لكن ما أن أمرت بفتح البوابة حتى هالك المنظر. كلهم كانوا هناك. نزلاء قسم الرجال الخمسة وعشرين حتى مرضى الاكتئاب العميق وقد وقفوا صامتين ، ومرضى الفصام الخيلائى الذين شاركوهم فى الصمت وإن وضعوا أياديهم فى جيوب بيجاماتهم الحائلة المخططة ملتفتين فى تعالٍ متصلب. شىء مشترك أحسست بوجوده بينهم جميعا ، ولم تكتشفه على الفور لكنك تبينته مع اقترابك منهم . كلهم غسلوا رؤوسهم وأغلبهم مشط شعره أو سواه براحتيه. وكان هناك من استخرج من تحت مرتبته ماجاء به من ملابس وارتداه ، جاكتة قديمة أو قميصا مشجرا أو بلوفرا منسيا من شتاء قديم .
معظمهم وعلى غير المعتاد كانوا مغلقين صدور بيجاماتهم الحائلة المخططة حتى آخر زرار بقى فيها. ووضح أنهم حرصوا على ارتداء شىء فى أقدامهم التى كان يريحهم دائما الشرود أو الهرولة بها حافية . كانت أقدامهم تحت أرجل بيجامات المستشفى الحسيرة تبدو حريصة على انتعال ما تيسر .. حذاء قديم ، شبشب ، فردة حذاء واحدة ، أو فردة حذاء فى قدم وفردة شبشب فى الأخرى ، ولم تكن هناك جوارب . لقد تهيأوا جميعا لحضور فرح سمعوا زغاريده من وراء السور والبوابة الحديدية ، وأخذوا يتقدمون في كتلة بشرية شعثة . يبتسم بعضهم تلك الابتسامات الآلية التى استخرجوا أشباحها البعيدة من صناديق إنسانيتهم المنسية. وتجد نفسك تصدر أمرا لم تفكر فى مغزاه وإن كان حدسك يتشبث به ، «هاتو كريمة ودخلوها العزل». وبينما كانت تجىء مدفوعة بأيادى الممرضات والتومرجية تجمَّد العالم باستثناء حركة موكبها. ساد سكون ذاهل كتلة المرضى الرجال القادمين من وراء البوابة بينما صوت الزغاريد يلعلع. تبددت أشباح ابتسامات بعضهم وأخرج الخيلائيون أياديهم من جيوب بيجاماتهم وأفواههم مفتوحة . واتسعت عيونهم جميعا واستطالت وجوههم المبهوتة مع مرور موكب الزغاريد .
رأى المرضى في قسم الرجال هذه المخلوقة الممتقعة الحمراء التى تطلق سيل الزغاريد فأدركوا بتشوش أن لا فرح هناك ولا حلوى ولا شربات أحمر ولا رقاصة. تضاغطت كتلتهم فى ذعر قطيع يرى فردا من جنسه يُقاد إلى الذبح وهو يصرخ . « لابد أنهم رأوها تصرخ لا تزغرد» . برقت فى ذهنك الخاطرة فانخطفت راغبا فى الخلود إلى نفسك. تاركا فريق العاملين معك يرتبون الأمور. كنت مُتعَبا وعطشان جرَّاء الركض الذهنى الكثير فى هذه الدقائق القليلة، وطلبت من أم شريف أن تحضر لك كوب شاى فى المكتب. راجيا من الممرضة الرئيسة أن تواصل ملاحظتها للمريضة من «نضارة» باب غرفة العزل وتبلغك بالتطورات .
***
«كريمة أبوالمكارم حسنين أوغلو» 29 سنة. متزوجة وأم لأربعة أطفال. عاملة بكلية الطب. زقاق المليجى عزبة ستوتة. اكتئاب أحادى القطب مع توتر ومحاولة انتحار باصطناع تعثرها أمام سيارة مسرعة . تريبتزول 25مجم 1 x 3 ، ايكسوتانيل 2مجم 1 x 1 بعد العشاء ، متابعة وصرف علاج شهرى من العيادة الخارجية بعد الخروج « ، كانت هذه كل معلومات تذكرة آخر دخول لها. مع تفاصيل لم ترها ذات معنى عن الأعراض والعلامات واختبارات الإدراك. وكنت تعرف الكثير مما لم يُكتب فى تذكرتها. تعرف أنها كانت أعجوبة الحيطان والبلاط والسلالم عندما كنت طالبا فى الكلية. تراها إما تكنس الأرض أو تنظف الحيطان والنوافذ أو تروح وتجىء حاملة ما يُطلب منها فى زى عاملات الكلية السماوى المربد. كأنها هانم صغيرة فائقة الحسن تسللت فى زى شغالة من قصرٍ ملكيٍّ ما . أعجوبة مهرة فاتنة تخوض فى الوحل وتمضى فى التراب ويُشاع أنها مُتاحة للامتطاء بأجر زهيد. كنت عاشقا لزميلة لك فلم يكن لديك فائض للفضول ولا للغواية ، وكانت تثير دهشتك وألمك ومراودة خفية وأنت تسمع بعض زملائك يشيرون إليها «البت دى بتروُح».
كنت تلمح فى عينيها الساحرتين كلما وجدتها فى طريقك نظرة هى خليط من الدعوة والتودّد ولا تنكر أنك اشتهيتها مرات دون أن تغامر بتضييع حبك ولو فى داخلك . كنت تبتسم لها ابتسامة محايدة فتبادلك بابتسامة امتنان يزيد لها استغرابك. وعندما وجدتها أمامك بعد أن صرت طبيبا نفسيا وجاءتك كحالة ارتبكت أنت أشد الارتباك ، وكانت منطفئة. شحبت فتنتها كثيرا مع الاكتئاب الداهم الذى بدا واضحا لك منذ أول لحظة. لكن ما تبقى من هذه الفتنة كان كثيرا أيضا . ظلت مهرة شديدة الجذب برغم دموع الاكتئاب الذهانى الغزيرة التى أغرقت وجهها الأبيض المتورد. واختلط فضولك أمام اللغز القديم ببحثك الجديد فى إطار مهنتك . لم تستطع أن توقفها فى طابور المراجعين ووجدت نفسك تسألها: «تحبى أكتب لك دخول تستريحى عندنا شوية ياكريمة ؟» . لم تكن تريد تدقيق قائمة التشخيص الدارجة المتسائلة عن اضطراب النوم والشهية للطعام واليأس والتفكير فى الموت والإدارك ودرجة الاستبصار. كان ذلك هو سطح «القصة المرضية» بينما كنت تريد الغوص فى أعماق لغز حيرك من زمن. وها هو اللغز بين يديك فما عليك إلا أن تتقدم وتلتقط مفاتيحه . «ياريت يابيه.. حتى آخد أجازة واستريح من الشغل شوية». وعلى مهل رحت تفتح صندوق الألم عبر جلسات البوح اليومية طوال شهر ظلت فيه مريضتك فى القسم الداخلى .
أذهلك كمّ الدهس والهرس الذى فاض به الزمان على «كريمة أبوالمكارم» . الإبنة الأكبر ضمن ثلاث بنات لنجار بسيط دكانته الصغيرة فى حارة «جنب الجامع». أمها كانت جميلة وفقيرة وتحكى لها عن أنها من أصول تركية. أتراك فقراء بؤساء لابد فلم تكن الأستانة تبعث بأغوائها ومماليكها وحدهم إلى درة الخلافة.. مصر.
عرفتَ من أين ورثت جمالها. وعرفت من أين أيضا ورثت الفقر. بل الفقر المدقع بعد وفاة والدها النجار الذى وقع عليه سلك من أسلاك الكهرباء قطعه «ماس» فى يوم ماطر . صعقه السلك المكهرب ومرّغه فى الطين ، ومرّغ امرأته وبناته من بعده فى حضيض الحاجة . زوَّجَتها أمها فى السادسة عشرة من نجار أرمل لديه ثلاث بنات ويكبرها بسبعة وعشرين عاما ليدير دكان الأب مع دكانته ويطعم عائلتين . أنجبت منه كريمة ولدا وبنتين فى خمسة أعوام. وبينما كان آخر أولادها فى الثالثة من عمره أصابت النجار الزوج جلطة تركته مُقعدا مشلول النصف. وخرجت كريمة إلى الشارع مهرة فى الرابعة والعشرين صمدت فتنتها فى وجه الفقر والجوع والانجاب ، وتكالب عليها جيش من الطامعين.. عيال ورجال أحدهم كان موظفا كبيرا فى إدارة الجامعة ، عيَّنها عاملة فى كلية الطب وكان ذلك مصدر رزق ثابت يغطى ثمن الخبز فقط ، وتكفل لحمها بتغطية ما تبقى من طعام وكساء لزوج مشلول وستة من الصغار، إضافة لأمها المريضة وأختيها الأصغر.
«كنت ساعات يا بيه وأنا بامسح بلاط الكلية أحس انى بقيت ممسحة. تصعب علىَّ نفسى وتنزل دموعى على الخيشة مع مية المسح. أبكى أكثر لما ألاقى دموعى مع الميه الوسخة. ولما كانوا زمايلى يشوفونى أكذب عليهم وأقول إن الميه طرطشت على وشى. وبعدين ما قدرتش أكذب لأن الدموع بقت تسيل من نفسها كده زى ما انت شايف ». وشُفت أنت يومها أن بحرا من الاكتئاب لن يجففه منديل من العقاقير فعوَّلت على جلسات الفضفضة تبعا لتوصية نقلتها إليك مريضة ريفية فى مَثل لم تسمعه من قبل ، ما أن سمعته حتى أيقنت أنه مثل عبقري ومُلهِم نفسيا : «اتكلموا يا حزانى تفرحوا» ، وراحت كريمة تتكلم وانت تحثها على المزيد.. حكت لك كيف يهدونها لبعضهم البعض ، تحت ستار أن تنظف بيوتهم وعياداتهم ومكاتبهم .. طلاب عرب.. وضباط شرطة صغار.. وأطباء فى عياداتهم الخاصة ومحامين في مكاتبهم .. ضابط مباحث كبير أعزب كان يقدمها كوليمة جنسية مفتوحة « أوبن بوفيه » لزواره في شقة عربدة يجبرها أن تخدمهم فيها وهي في قميص نوم من الشيفون الأسود يفضح بياض عريها الكامل تحته . وطلاب كانوا يطأونها بجدول يحدد أدوارهم في طابور تبعا لما يدفعونه . أما الرجل الذى احبته فقد كان أستاذا مساعدا متدينا وبالغ الوسامة ومتزوجا من زميلة له ضمن هيئة تدريس الكلية وإن في قسم آخر . كان يقول لها وهو يرتجف اشتهاء ألا تخلع ملابسها الداخلية. يُنيمها على سرير الكشف بكامل ثيابها وهو لا يتجرد إلا من بنطلونه. ويظل يحرُك فوقها ويكبش ويلهث حتى ينتفض ويموء مثل قط مذبوح ثم يهمد ويستغفر الله ويتعوذ من الشيطان الرجيم . كانت تحبه وهو يعترف لها أنه يحبها لكنه لا يستطيع أكثر من ذلك. وبدأت تدهمها نوبات الاكتئاب الذهانى . تفكر فى الموت وترى سرب الصغار فى عنقها فلا تجرؤ على الانتحار. وما أغرب أن وجدت نفسها تُدخِل قلبها بعد ذلك فى حلقة نار، حتى وإن كانت ناراً تُذيب ولا تُحرِق !
صارت مدمنة حب في الخيال . تحب كل يوم شخصا ممن لا يدهسونها. حب رومانسى تغرق معه فى الأخيلة وتعشق له أغانى عبدالحليم وأم كلثوم ونجاة . تطير بأجنحة من حرير فى سماوات زرقاء صافية لكنها فجأة تجد نفسها وقد انهبدت مرتطمة بالأرض الصلبة والوسخة. تدخل فى نوبة الاكتئاب العميق وتأتى إليك فتكتب لها الدخول. تظل أسبوعا أسبوعين حتى يفرغ الكلام فتفرح وتخرج حتى تعود من جديد. تقبل عليك بالوجه المبتل بسيل الدموع والجسد المنهوك بالأرق والرأس المسكون بهواجس الموت والانتحار. لكنها هذه المرة أتت بلا دموع ، بل بالزغاريد . فماذا وراء هذه الزغاريد ياكريمة!


البقية الأسبوع المقبل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.