تسجل ذلك أولا بأول ، لأنك تحدس أو تهجس باكتشاف ربما يصعد بك إلى قمة عالية أو يهبط بك إلى قرار سحيق . تبدأ من البداية التي تناهي إلى سمعك فيها ذلك الصوت الذي انقلب على طبيعته في ظهيرة الأمس التي كانت حارة ورطبة على غير العادة. صوت زغرودة بعيدة سرعان ما تبينت استمرارها في تيار متواصل متصل من الزغاريد . ووجدت نفسك مدهوشا تصف ما تسمع بأنه «حبل زغاريد» . وأخذ حبل الزغاريد هذا يقترب فأدركت بشكل غامض أنه مقبل نحوك ، فنهضت من وراء مكتبك وسويت براحتيك فى حركة تلقائية صدر معطفك الأبيض ، واستدرت مطلا من بين قضبان النافذة المفتوحة على ممر مدخل القسم وراء ظهرك . كان حبل الزغاريد يقترب أكثر . قدَّرت أنه عَبَر الآن بوابة أقسام الأطفال ومُلحق الباطنة وينعطف ليعبر الباب الجانبي الصغير المفضى إلى الباحة الخارجية لقسم النفسية . يستدير ليجتاز الممر الضيق بين مبنى غُرَف « العزل» وعنبر الحريم الذي تقع عند مدخله غرفة الطبيب المناوب .. غرفتك . ها هو حبل الزغاريد يواصل تقدمه فى مرمى بصرك فتدرك أنها «حالة» ، وأنك ستبدأ عملك بعد قليل فتعود إلى الجلوس وراء مكتبك . المكتب الإيديال المفروش بقطعة قماش من التيل الأبيض طرزته لك مريضة بالفصام التخشبي بعدما برئت من جمدتها ، كان التطريز يرسم بيتا وشجرة أمام البيت وشمسا فوق البيت والشجرة . ثلاثية البنات المريضات الخالدة ، والتي ربما تعني الشوق إلى بيت وظل رجل وشمسا تبعد عن نفوسهن الكسيرة كل ما ران عليها من برد وعتمة. تعرف تعلق المريضات النفسيات بطبيبهن وتحاذر حتى لاتتورط أو تورطهن ، فيتأهب داخلك حارس غامض . تحس بتأهبه بينما حبل الزغاريد مقبل نحوك حاملا إليك نذير مريضة أنثى ، فمن تكون ؟ وكيف تكون ؟ تتوقع أن تمر الحالة من وراء ظهرك حالا حيث لن تقف ولن تستدير لتطل عليها، محتفظا بإطلالتك للحظة « المُناظرة « حتى لاتبتذل « هيبة الطبيب « التي تعتقد أنها جزء مهم من فعالية الطبيب النفسي خاصة وأنك تبدو أصغر كثيرا من عمرك الذي بلغ الثلاثين . تُخرِج من أحد أدراج المكتب الجانبية ملفا خاليا لمريض جديد ، بل مريضة جديدة ، وتهيئ قلمك لتسجيل القصة المرضية. لكن حبل الزغاريد يدهمك وتفاجئك « هى « ويذهلك أنها صاحبة » حبل الزغاريد « ، فلا تعود تعبأ بتدوين أى كلمة . صار همك أن تستجمع تركيزك الذى بعثره حضورها ورنين الزغاريد فى الغرفة ، وزحمة البشر الذين حضروا في رَكبها. كانت هى في وسطهم بجلبابها السماوى الباهت الحائل يتحلقها أربعة من عمال كلية الطب . تذكرت منهم «عم خميس» ساعى البريد العملاق مفرط الطيبة ، والجنايني العجوز النحيف محني الظهر ذي المشية المتأنية « عم فرحات». كبروا كلهم فى بضع سنوات منذ تخرجك . كانوا يحدقون بها فى حيرة وتأثر ، وخجل واعتذار عما تفعله. يولونك وجوههم الطيبة العجوز «معلش يا دوكتر». « ما تآخذهاش يا بيه » . ثم يلتفتون إليها مربتين كتفها بعطف ، محاولين لمس فمها بأسف ورجاء لتكف « اهتدي بالله ياكريمة « ، «خلاص يا كريمة» «وقّفى شوية»، «اهدى الله يهديكى يا بنتى « . لم تتوقف ، ولم تهدأ. كانت تروغ من بين أياديهم . يتملص جسدها العامر المهان ، وينفلت وجهها القمرى الممتقع الذى صار بياضه بلون الدم وهى تطلق الزغاريد ، حبل الزغاريد . كأنها ساحر يطلق من فمه حبل مناديل ملونة معقودة بأطرافها في تواصل لا ينقطع . ولم يكن ممكنا أن تَصُمّ أذنيك عن رنين الزغاريد لتستعيد تركيزك ، لكنك اهتديت إلى قرار تخفيف الزحام في الغرفة. «يا الله يا جماعة. لو سمحتم كل الناس بره ما عدا أهل القسم . ما تآخذنيش ياعم خميس» . «العفو يادُوكتُر . دا شغلك وربنا يعينك عليه يابني » . لم يكن معها عمال كلية الطب الأربعة وحدهم، بل جاء معها رهط من المتفرجين والفضوليين الذين كان يجتذبهم حبل الزغاريد المُمتد على طول الطريق . من مبنى الكلية عبر الكورنيش ثم شارع الرئيس فشارع المستشفى العام . عيال صغار وصبية ورجال قرويون من المترددين على المستشفى الجامعي والمستشفى العام ، وآخرون من أهل المدينة من البيوت المجاورة . كلهم انصاعوا لطلبك أن يخرجوا من الغرفة ، وإن في تلكؤ . كأن شيئا سحريا سيفوتهم فيما يتصورونه من تدابير للجنون . أما الممرضات اللائي جئن من أقسام الباطنة والجراحة في المبني الممتد خارج سور القسم ، ومعهن عاملات من مختلف أركان المستشفى ، فقد تلكأن أكثر بحسبان أنهن من « أصحاب المكان » . ألجأوك إلى تكرار طلبك بنبرة لوم «لو» سمحتم مش عايز هنا غير أهل القسم . خرجن منسحبات في تثاقل وهن يظهرن شفقتهن ، أو يوارين ابتسامات تعجبهن من الجنون وأحواله. وأمرت أنت أن يغلقوا الباب ، فامتلأ صندوق الغرفة برنين الزغاريد التى تثنَّى حبلها وتلوى طائرا ومُناورا بجنون فى محدودية المكان . أخذ يرتطم بالجدران وبالأرض وبالسّقف ، يتخبط وينعكس ويندفع ويرتد . كدت تصرخ من اختراقات الرنين الحاد لأذنيك لكنك لم تكن فى وارد الصراخ . أنت الآن الحكمة المُفتَرَضة فى مواجهة الجنون. القائد لسرب يشوّش مساره منفلت واحد عليك أن تضبطه . أنت العِلم قبالة اللغز المأمول فيك حله. وكان هناك فريقك البائس ينتظر أفراده قرارك . التومرجى همَّام بجلبابه البلدى وقوته الجسدية سابقة التجريب ، والممرضتان المُناوبتان أكبرهن « الريِّسة « وهي سمينة سمحة الوجه عطوف كأم . والأخرى الأصغر سمراء مغناج نزقة ، «يوه.. ما تهمدى شوية يابت» . وكانت هناك أم شريف التومرجية العجوز، «هدِّى بالك شوية يا كريمة يا بنتى.. هى دى أصول يا أم هشام.. البيه يزعل منك». وحيال امتداد صمتك تبرع همام بفتوى لم تطلبها منه « نحضّر جهاز الجلسات يا بيه» ؟ لم ترد. وقالت النزقة «أَحَضَّر النيورازين والليمونال يادوكتر » ، فأشحت عنها عابسا. «قعدوها» هذا كل ما ألهمك به ذهنك الضاج بأصداء الرنين . أجلسوها على مقعد يواجهك ، وهم يحيطون بها محاولين إسكاتها. لم تسكت ، ولم تنقطع زغاريدها. لَبستَ أنت إهاب التطمين مخاطبا هشاشتها برجاء هامس « نهدا شوية يا كريمة ». لم تهدأ. خطر لك أن يكون عارضها انقلابا هستيريا ، فارتديت قناع القسوة وحشوت صوتك بفرقعة منبه قوى صارخا فيها «قلت انكتمى» .لم تنكتم . وابتلعتَ أنت زعيقك مداريا ملامح خزيك بإطباق جفنيك فى ألم . فتحت عينيك على ابتسامة التومرجى الصفيقة التى تقول لك بغير كلمات « زى ما قلت لك .. الجلسة تسكتها على طول » ..» الخبرة أهم من العلم يا باشا « . وفى هذه اللحظة ركب العناد رأسك : لن تضع رأسها تحت صواعق ذلك الجهاز اللعين أبدا ، ليس لأنك تعرفها وتعرف ما تفعله تشنجات صعقة الكهرباء البارقة هذه في المخ .. تفجِّر فى كل مرة نهاية وعاء دموي دقيق فيتكون نزيف بحجم رأس دبوس فى نسيج المخ المرهف ، يتخثر رأس الدبوس فيصير جلطة منمنمة . وجلطة منمنمة وراء جلطة منمنمة ، وتتجمع مع توالى الصعقات جلطة كبيرة تتكلس وتتحول إلى حصاة، «طوبة « . طوبة فى أرهف وأرقى أعضاء الإنسان . وعلى مشارف هذه الطوبة فى المخ يتجمع العته المبكر. يصير الإنسان جسدا بلا وعى. وهذه أنت تعرفها وتعرف كيف أنها فى أمس الحاجة إلى ما تبقى من وعيها. ثم إنك لن تُشبِع تعطُّش المُمرض السادى الذي يبدو في ذروة النشوة عند القيام بدوره أثناء إعطاء هذه الصعقات للمرضى ، يبدو مزهوا بنفسه بينما يكبِّل الأطراف ويثبت الحوض ويغلق الفك ثم ينتظرك على زر الجهاز . تثبت قطبي الجهاز على جانبي جبين المريض فيهتف بنشوة تكاد تكون وحشية : « ريدي يا بيه» ، ويضغط الزر قبل أن تكمل كلمة «ready» . ويقفز مرتكزا بثقل يديه على ركبتى البدن المنتفض ملتفتا بوجهه في ابتسامة انتصار شرهة وهو يسمع صرخة المصعوق التي تزوم « آوووووووو م م م م « . كأنه ينتشى بسماع غنج امرأة تحته. لا لن تشفي غليله. يتصنّع ابتسامته الصفراء الصفيقة وأنت تركل اقتراحه . وتقفز النزقة عندما تلمح إصرارك ألا تعطيها جلسة الكهرباء « دي مش ها تسكت إلا بانترافال يا دُكتور « . تشيح لها بيدك أن تلتهى ، وتكاد تضحك من مفارقة صورتها هذه مدعية الصرامة في النهار وتهافت إغوائها في الليل . في الليل تبتكر حيلا لا يُقدم عليها غير المجانين . تفاجئك عارية إلا من فوطة تلف بها رأسها المبلولة بعد دوش اصطنعته في عمق الليل وبُرنس ينفتح على عريها الصاعق . تنحني وتتطاول أمام دولاب أدوية الطوارئ ، زاعمة أنها تبحث عن شيء ما في الدولاب كأنها لاتدري بانفتاح الُبرنس . بل تسقط البرنس كله كأنما سهوا ، عندما تشعر بعدم كفاية إغواء مايبين من شقه المفتوح .. عينات قنابلها وداناتها التي لاتنكر أنت أنها متفجرة وفتاكة ، وتتطلب رباطة جأش أسطورية في الصمود أمامها ! تتسرب ضحكتك المكبوحة التي لايعرف أحد سرها غير السمراء النزقة نفسها ، وتشع الضحكة في المكان مانحة برهة من الاسترخاء النسبي ينعكس تاثيرها داخلك مثل بؤرة يتكاثف عليها شتات تركيزك. تتعاقب هادئة التساؤلات وشيء من محاولات الإجابة : هل ماتمر به كريمة انقلاب هستيرى؟ ربما.. فهى « أنثى . صغيرة . فقيرة « ثلاثية الهستيريا المثالية ، وإن لم تكن صغيرة تماما . إضافة إلى جمالها مع البؤس كمحفز فعَّال للانقلاب الهستيرى .. مواجهة الصدمات النفسية الحادة بالقفز من شاهق الشعور إلى قاع بئر اللاشعور، وتنبثق أعراض الكف : العمى الهستيرى ، الخرس الهستيرى ، الشلل الهستيرى. لكنك لم تر عارضا هستيريا مثل ما أتت به كريمة الآن . ما تسمعه من زغاريد متواصلة لأكثر من ساعة على هذا النحو الغريب لم يرد في كل ما عرفته أو قرأت عنه من حالات الانقلاب الهستيرى . ثم إنك لابد أن تعرف كنه الصدمة لتحدد طبيعة رد الفعل . ولماذا لا يكون ماهي فيه الآن هو القطب الآخر للاكتئاب الذى كنت تعالجها منه منذ سنة ونصف دون أن تفترض وجود اكتئاب ثنائي القطبية ؟ هى لم تُظهِر غير اكتئاب أحادى القطبية. اكتئاب لم يتناوب معه أى هوس . وهذه الزغاريد لن تكون أبدا مجرد هوس ، بل هياج هوسي إن صح انتماؤها لقفزة الmood الهوسية العالية. هى تزغرد نعم . لكنها تزغرد بلا ملامح . ممتقعة ومحتقنة ومحتشدة كلها فى الذبذبات العنيفة لذلك الصوت. هل هى فى عارض وسواس قهرى؟ لكن هذا الزخم الحاد يتجاوز حدود العُصاب ويحمل عبء وجسامة الذُهان . هل زغاريدها فعلٌ قهرىُّ ثانوى.. إفراز من إفرازات الذهان.. المرض العقلى.. هل تكون داخلة فى فصام حاد؟ تومض تساؤلاتك ومحاولات الإجابة مثل نبضات فلاش متعاقبة ، تتساوق مع رنين الزغاريد . شىء ما قوى وعميق يخصك أنت حيال هذه الحالة ، غامض ولا تدري بكنهه . شيء يجعلك تنبو عن المعتاد والمبتذل من الحلول فى مثل ماتواجهه من حالات ،. شيء يخصك أكثر مما يخصها ، ولا يعني الحيرة التى تنتاب اخصائيا شابا بل حتى أستاذا كبيرا خبيرا حيال اختلاط مُجتاح على هذا النحو . وتفكر في الاكتفاء بتدابير العلاج الإجرائي . تعالج الأعراض حتى تكف دون أن تتوجه لأسبابها الآن ، فالأسباب قد تتطلب وقتا وجهدا للاهتداء إليها إن اهتديت . ثم إنك تعوِّل على أن علاج الأعراض قد يمتد لمعالجة الأسباب. وترفض كل الاقتراحات الدارجة التى يتساوى فيها الطبيب مع الممرضة مع التومرجى . هل هو كبرياؤك المهنى أمام تابعيك ؟ أم أن هناك شيئا غائما مثل طيف فراشة مهتاجة يعسر الإمساك بها ، ومع ذلك تحاول ملاحقتها في صميم ما تراه ؟! أنت تقف أمام حالة من التعالى الفنى المدهش لنزيف النفس الإنسانية ، فلطالما كنت مفتونا دائما بعيدا عن هذه الحالة بتلك الزغاريد المصرية التى لا تماثلها أية زغاريد في الدنيا . أعجوبة صوت الأنثى وقد انضغط وتكاثف وانطلق رفيعا ثاقبا من عمق الصدر ليقطعه لسان متذبذب مثل مطرقة أجراس الأبواب فى طرف الحلق لتنطلق سهام الزغرودة بارقة متتابعة حتى تفرغ جعبتها . لكن هذه لم تكن زغرودة واحدة ، أو حتى حفنة زغاريد . بل زغاريد بلا عد متصلة متواصلة . عرض فنى جنوني تشكله هذه الزغاريد على مسرح نفسٍ إنسانية مُنهَكة، ماذا فى هذه النفس الآن يا كريمة ؟ تساءلت في داخلك ، وقررت أن هذا بحث يطول ويتحتم تأجيله . لا صدمات كهرباء على المخ ، ولا حُقَن مهدئات كبرى ولا صغرى ، لا شيء سوى تركها تشد حبل هذه الزغاريد حتى ينتهى وهو لابد سينتهي ، ستُضطَر هي لإيقافه عندما تسقط مغشيا عليها بفعل فرط التهوية الذى تصنعه زفرات الزغاريد المتلاحقة وما يوزايها من تفريط فى التقاط الشهيق . « توضع المريضة في غرفة العزل تحت المراقبة 24 ساعة » ، أصدرت قرارك كتابةً وأنت واقف وراء مكتبك . وكنت تقرأ ماكتبته بصوتٍ مسموع ما كتبته ، وظللت واقفا تنتظر التنفيذ . (البقية الأسبوع المقبل)