تخيلت نفسي كأحد حضور المؤتمر الذي خطب فيه الرئيس محمد مرسي في جامعة القاهرة يوم30 يونيو الماضي وتخيلت أني أستطيع أن أرفع صوتي ليصل إلي مسامع الرئيس لكي أذكره بالاهتمام بقضية المياه التي لم يرد ذكرها علي لسانه طوال حملته الانتخابية والتي يبدو أنه نسيها في خضم لقاءاته في ميدان التحرير وداخل ردهات المحكمة الدستورية وفي ثكنات القوات المسلحة الباسلة التي زارها وخطب فيها جميعا خلال يومين متتاليين... فالماء يا سيادة الرئيس هو الحياة بعينها في مصر وفي سائر الأمصار إلا أننا نحن المصريين نفخر بأننا ولدنا وأقدامنا مغروسة في طين الأرض فنحن جميعا فلاحون أبناء فلاحين نعشق العمل بالزراعة ونفتخر بامتلاك الأرض ونحسب أن الأرض جزء لا يتجزأ من العرض والشرف واسمح لي يا سيادة الرئيس بأن أقول أنه برغم كل ما سبق فإن الكثير منا لا يقدرون النهر حق قدره ولا يحترمون الماء حق احترامه ولا يتعاملون مع هذه النعمة بما تستحق من شكر المنعم عليها بالمحافظة علي قطراتها. أبدأ بالمصدر فأقول أننا لم نحسن معاملة الدول التي يأتينا منها ماء النيل الذي يمنحنا الله من خلاله ما يزيد علي95% من مواردنا المائية وبرغم من أيام مضت كان لمصر خلالها الريادة في أفريقيا كلها وفي دول حوض النيل علي خصوصيتها وساعدت مصر العديد من هذه الدول في الحصول علي استقلالها وحريتها وكان ذلك بتجييش الجيوش وتقديم الدعم بالسلاح والعتاد والمساعدة بالطرق السياسية والدبلوماسية والمعلومات والمخابراتية وقدمت في الوقت نفسه الأموال والمعونات الغذائية وساهمت في تطوير الزراعة والصناعة والتجارة وأقامت لذلك كله المؤسسات حتي لا ينتهي الأمر بزوال النظم واختفاء الأفراد إلا أن ما توقعه الرعيل الأول ما لبث أن حدث علي أرض الواقع وجاء علي مصر الوقت الذي استبدل فيه النشيد الوطني المصري بموسيقي والله زمان يا سلاحي إلي موسيقي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي انكفأت مصر علي نفسها وقال البعض مصر أولا وليذهب ماعدا مصر إلي الجحيم ونسي هؤلاء أن موقع مصر ومكانها ومكانتها وتاريخها وجغرافيتها كلها ترسخ مفهوما واحدا ومقولة واحدة هي أنها لا يمكن إلا أن تعيش مع الأمة المحيطة بها والتي تتأثر بها وتؤثر فيها وأن مصر خلقت وعاشت وستستمر في الحياة عربية أفريقية إسلامية بل أن المحاولات المستميتة لاستبدال البعض من هذه الثقافات والديانات بالتوجه نحو مجتمع البحر المتوسط باءت في معظم الأحوال بالفشل الذي بدا ذريعا عندما حاول البعض ضم إسرائيل إلي ما يسمي بإقليم الشرق الأوسط الكبير أو إقليم شمال وجنوب البحر المتوسط. الأولوية الأولي لمصر يا سيادة الرئيس أن تستعيد علي وجه السرعة هذه العلاقة المحورية مع أفريقيا ودول حوض النيل ولن أذكركم هنا بضرورة أن تكون مصر هي دائما البادئة بالخير وأن تقوم وحدها بالعطاء دون انتظار لأن نأخذ من أحد حتي لو كانت ظروفها الاقتصادية تحتم عليها أن تهتم بالداخل لأن الاهتمام بدول حوض النيل لن يعود علي مصر إلا بالخير العميم ولو بعد حين.وعندما تصل المياه إلي بلادنا تكون في أغلب الأحيان نظيفة وعذبة نبدأ نحن داخل ديارنا عملية لا يمكن أن توصف إلا بأنها إهانة لنهر النيل وإهانة واستهتار وازدراء لنعمة الله علينا بكل المقاييس. كيف تصف يا سيدي رجلا يعيش في مدينة أسوان يعلم أن هذا النهر الذي يمر أمام منزله يحصل منه الملايين من أهله وعشيرته علي المياه التي يشربونها ثم يلقي هذا الرجل بدم بارد بكل أنواع المخلفات في مياه النهر ألا يهين هذا الرجل النهر أولا ثم يهين كل مواطنيه من المصريين بعد ذلك.ثم كيف تصف يا سيدي رجلا يزرع في بداية النهر أو بداية الترعة وكلما استيقظ صباحا يفتح بوابته ليروي زراعته وهو يعلم أن شقيقه المواطن الذي تقع مزرعته لسوء الحظ في نهاية الفرع لا تصل إليها المياه وأن زراعته قد يصيبها العطش والهلاك. ثم كيف تصف يا سيدي مزارعا حرمت عليه الدولة زراعة الأرز لما يستهلكه من كثرة المياه فإذا به يصر علي ألا يزرع إلا الأرز ولتذهب ميزانية البلاد من المياه إلي الجحيم. كيف تري يا سيادة الرئيس هذه الأعداد الهائلة من المهندسين والفنيين والعمال والموظفين الذين تزخر بهم وزارة الري وقد ناموا في سبات عميق واكتفوا بتوجيه اللوم إلي ضباط وجنود الشرطة الذين انفرط عقدهم في أحداث الثورة والذين يلملم شملهم الآن وزير محترم يواصل الليل بالنهار أقول هذا وأنا أعلم أن ساعة العمل الثوري قد دقت بالفعل وأن المطالبة بزيادة الأجور وتثبيت المؤقتين وتعديل القوانين يجب أن يسبقها تطبيق القوانين وتحرير المخالفات بلا خوف والعمل الدءوب بلا كلل ولا ملل. السيد الرئيس: يقول البعض اننا تجاوزنا حدود الفقر المائي وأقول ان العديد من الدول يقل فيها نصيب الفرد من المياه بكثير من نصيب الفرد من أبنائنا وأقول أيضا أن ثبات الوارد من المياه مع زيادة عدد السكان سيعمل علي خفض نصيب الفرد بشكل مطرد وعلينا أن نستعد لأيام قادمة قد تكون أكثر فقرا مما نحن فيه ويتطلب ذلك يا سيادة الرئيس تفكيرا طموحا ورؤية واضحة وقرارات حاسمة أهمها: تحسين العلاقات بدول حوض النيل بغرض زيادة حصة البلاد من المياه وهذا ممكن لأن الهطول المطري علي الحوض أكبر بكثير مما يستفاد به من المياه في الوقت الحاضر. الترشيد الكبير في استخدام المياه للأغراض المنزلية والصناعية والزراعية. وقف كل أشكال التلوث التي تعاني منها شبكات المياه المكشوفة والمغلقة وتفعيل القوانين والاهتمام أيضا بزيادة الوعي لدي المواطنين. المزيد من مقالات د. ضياء الدين القوصي