صحيح أن المجتمعات الغربية فى مرحلة انفتاحها المعرفى والتقنى على العالم والكون، كمرحلة انعطاف لوعى نهضوي، تستهدف كشف المجهول بمعارضتها لكل قديم، إيمانًا بأن الحاضر هو الذى يولد المستقبل، فى ضوء إعمال العقل إنتاجًا للحقائق، وبالقطيعة مع كل الأبواب الموصدة فى وجه العقلانية، فإن ذلك ما أسس الحوار بين العقل والعالم والكون، الذى طرح تغيرات حاسمة فى أنظمة الفهم، دفعت المجتمعات وشحذت أفرادها لاقتدارهم على إعادة إنتاج ذواتهم، فمارست المجتمعات الغربية حياتها وتداولاتها فى ظل أنظمة تحكمها مفاهيم محددة، ذات دلالات ثابتة، تواضعت عليها تلك المجتمعات، وصحيح أن هذه المرحلة لم تمتلك نصًا تأسيسيًا؛ لكنها كانت تمتلك اقتدارها على تصحيح ذاتها، ودوام إشراق يقظة الفكر، ووفقًا للتحقيب الحضارى يطلق على هذه المرحلة «الحداثة»، التى بدأت فى أواخر القرن التاسع عشر، واستمرت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، والصحيح كذلك أن الحداثة استطاعت أن تمارس التأسيس فى المختلف، باقتدارها على النقد والمراجعة الدائمة، واحتضانها فعالية التفكير العقلانى فى ارتحاله وتجواله، وذلك ما حقق تطورًا لتلك المجتمعات اتسم بالتمايز والتكامل، إذ فى ظل استمرار سلطة التنوير بوصفها أعلى من كل سلطة، استمر العقل بفضل التنوير متألقًا، وانتصرت »الحداثة« فى معاركها، وحطمت بذلك كل الحواجز أمام المستقبل، لكن البعض توجس خوفًا على «الحداثة» من أن تقود إلى الفاشستية، فى حين أن البعض الآخر كان موقنًا أن النضال من أجل التغيير المجتمعى لا يتأتى إلا من خلال التحول الديمقراطي؛ لذا يجب أن ترسخ القيم الديمقراطية مجتمعيًا، كى تجسد مفهوم مجتمعات الحداثة الديمقراطية. ثم هيمنت مرحلة «ما بعد الحداثة» على الغرب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فى سياق ممارسات الرأسمالية الاستهلاكية، حيث راحت تؤكد خصوصيتها بأنها نقد النقد، بمعنى أنها نقد «للحداثة» التى انتقدت ما قبلها، ثم شرعت تؤكد روح المخالفة بأن حرية الفرد أصبحت تعادل فرديته بالذات؛ إذ تطرح هذه الحرية فردية الاختلاف وتعزز فلسفته، حتى أصبح الاختلاف يعم كل شيء فى الحياة. لا شك أن الإنسان هو المهموم أساسًا باستطلاع العالم والوجود فيه، وذلك ما يحث تطلعه إلى المغايرة، لحظة أن يدرك أنه قد احتبس نفسه فى حياة ذات معطيات جاهزة وثابتة؛ لذا فالانفتاح الدائم على العالم والكون يمنح الإنسان إمكانية الفهم والحضور والتغيير، لكن ترى كيف يكون الأمر عندما يتخطى الإنسان حدود ما تعطيه تجربة الانفتاح، ويضيف من عنده ذاتيًا ما يسوغه له يقينه أنها الحقيقة، فى حين يكون ذلك شططًا وإكراهًا ينتهك حقيقة ما منحته إياه تجربة الانفتاح؟ ترى هل هذه التسويغات أو التصورات يمكن أن تصبح ممكنات إذا عززها الاحتياج أو الرغبة؟ لذا فالأمر لا يتوقف فقط على دراسة تلك التصورات؛ بل أيضًا تحليل أبعاد الذات التى اخترعت تلك التصورات، وراحت توظفها مجتمعيًا. إن «زيجمونت باومان» (1925/ 2017)، الفيلسوف البولندى الأصل، الإنجليزى الجنسية، قد تصدى لدراسة مرحلة «الحداثة»، ومرحلة «ما بعد الحداثة»، مستهدفًا خضوعهما لمعرفة تبيينية تنفتح على حقيقة كل منهما، وتأثيرهما على مصير الإنسان، فأطلق على مرحلة «الحداثة» التى اتصفت بفعاليات التصنيع، والرأسمالية، مصطلح «الحداثة الصلبة» لاتسامها بفورية الواقع وإنتاجاته المتعددة، حيث يدعمها التخطيط العقلانى المنتظم، وتعتمد أيضًا على اقتصاد مركزى مستقر، وثمة قوانين لضبط الأداء المجتمعى واستقراره على المستويين الفردى والجماعي، فى سياق حاضر منمذج وفق مواصفات محددة، تفاديًا للفجائية، وأيضًا التمسك بالحفاظ على توازن خريطة البناء الاجتماعى واستقرارها، من الطبقة العاملة إلى الطبقة الوسطي، ومتابعة تنسيق أفعال الأفراد بمعيارية وحيدة، ويعتبر «باومان» أن «الحداثة الصلبة» نتيجة مباشرة للتنوير، حيث العقلانية أدت إلى تحرير الإنسان، كما أن مفكريها استخدموا العقل والعلم؛ لذا تجسدت قيم التنوير على المستوى الفردى كأسلوب حياة، وأيضًا على المستوى المؤسسى بوصفها قيم التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وقد أطلق أيضًا على مرحلة «ما بعد الحداثة» مصطلح «الحداثة السائلة»، الذى يشير إلى ظروف عالمية تتسم بسيولة متدفقة ومتغيرة، ويؤكد «زيجمونت باومان» أن الحداثة السائلة قوضت قيم عصر التنوير، ويحدد مجموعة من التطورات المترابطة التى أدت إلى ذلك، من أهمها أن الدولة الوطنية لم تعد الهيكل الحامل الأساسى للمجتمع، وأن من يشكلون المرجعية الفكرية من الخبراء والأكاديميين، بوصفهم حراس الحقيقة قد أصبحوا فى موقع هامشى نتيجة الشك والالتباس واللامبالاة المجتمعية تجاههم، ويتمفصل مع ذلك تدفق الشركات المتعددة الجنسيات التى أنتجتها العولمة، فاخترقت سلطات البلدان وبددت مركزيتها، كما أن المجتمعات أصبحت تحت تأثير المخاطر الأمنية والأضرار المحتملة، وأيضًا فإن الهجرة قد تنامت عبر العالم تناميًا غير مسبوق. ويعدد «باومان» التمزقات الداخلية التى انعكست على الأفراد، إذ ساد اقتصاد الاستهلاك، وصار شائعا إعادة الهيكلة، بتقليص عدد العاملين نتيجة المنافسة المحمومة بين الشركات فى سوق العولمة، مما أنتج عدم الاستقرار الوظيفي، الذى تضافر معه تراجع دور دولة الرفاه، وتآكلت رعايتها للعاطلين عن العمل، والمرضي، وقضايا الإسكان والصحة، وذلك ما أربك الفرد فى مواجهة مخاوفه بعد أن ذابت الروابط الصلبة المجتمعية. وفى كتابه «الحداثة السائلة» يورد «زيجمونت باومان» رصده لتلك المأساة بقوله: إن حالة » فقدان الاستقرار التى يديرها القائمون على أسواق العمل تؤيدها سياسات الحياة وتعزز آثارها. فسياستا العمل المؤقت والحياة كلتاهما تلتقى فى النتيجة نفسها: اضمحلال الروابط الإنسانية والمجتمعات الإنسانية والعلاقات الإنسانية، وذبولها، وتداعيها، وتفسخها. فالعهود الماضية (بألا يفرقنا إلا الموت)، صارت عهودًا بصيغة (ما دام الإشباع)، وهى عقود مؤقتة وعابرة بطبيعتها وبتصميمها وبتأثيرها البراجماتي، ومن ثم فهى عرضة للفسخ من جانب واحد، عندما يكتشف أحد طرفى العقد فرصة وقيمة فى الخروج من العلاقة، تفوق محاولات إنفاذها بأى ثمن ومن غير حساب, فى مرحلة «ما بعد الحداثة»، وفى ظل الهيمنة الكاملة للمجتمع الاستهلاكي، بإغوائه ونزوعه إلى الاستمتاع، انبثقت ثقافة الاستهلاك التى احتكرت مفهوم التقدم، وراحت تدعمها مخترعات متتابعة، استهدفت قولبة الإنسان عقلاً وسلوكًا بازدواجية يتجلى ظاهرها الإنسانى وهو يخفى حبائل استغلالها لحساب منطقها، الذى تجاوز حقوق الإنسان، ومفهوم التنوير، والقيم الأخلاقية. صحيح أن «زيجمونت باومان»، قد أصدر مجموعة كتب هى مستمسكات اتهام موجه ضد «الحداثة السائلة» وتجلياتها المتعددة، لكن الصحيح أن كتابه «هل للأخلاق فرصة فى عالم استهلاكي؟»، يرصد أن ما افتقده مشروع «ما بعد الحداثة»هو رهان التقدم، الذى تبدى فى انهزام عقلانيته من شمول التنوير والمعرفة والأخلاق. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى