الفرق بين الفن والتاريخ قضية جرى حسمها منذ زمن بعيد وبالتحديد منذ أرسطو حيث رأى أن الفن أفضل من التاريخ ومن الفلسفة. وجاء من بعد أرسطو الكلاسيكيون القدماء والجدد من أمثال هوراسي وسكالفيرو وفيليب سيدنى وبوالو ودرايدن ودكتور جونسون وبوب وأعلوا من قيمة الفن على بقية فروع المعرفة. إن ما يثير الحيرة والاستفزاز عندما يحاول البعض الذين من المفترض أنهم على درجة عالية من الثقافة الخوض فى هذه القضية مرة أخرى وتطبيقها علي مسلسل «الجماعة» أن موقفهم يثير الحيرة والدهشة، بحيث يجعلنا نطرح سؤالا فى غاية الأهمية: هل كان الكاتب وحيد حامد يقصد كتابة تاريخ الجماعة وأقصد بالطبع جماعة الإخوان المسلمين أم كان يقصد كتابة عمل درامى فى شكل مسلسل للتليفزيون؟ من الواضح أن نتيجة الاجابة عن هذا السؤال وقوع الخلاف بين الذين كتبوا عن هذا المسلسل. لم يرض أهل التاريخ عما زعم الكاتب أنها حقائق تاريخية خاصة علاقة جمال عبدالناصر بالاخوان المسلمين وهى علاقة دعمتها الكثير من المراجع الموثوق بها ولكن الذين يتمسحون بالتاريخ استماتوا فى نفى هذه الحقيقة متجاهلين شخصية عبدالناصر المكيافيلية وادعوا أنها مجرد أكاذيب وافتراءات. فى حين أن أهل الفن وجدوا أن المسلسل مجرد سرد لمشاهد لا رابط بينها، وعديد من الشخصيات تظهر فجأة وتختفى فجأة والمشاهد طويلة وحوارية تفسد الايقاع فإن من قواعد كتابة السيناريو إذا كان هناك مشهد طويل أو أكثر فيجب الالحاق بمشهدين قصيرين لدفع الحدث إلى الأمام والمحافظة على الايقاع. ونلاحظ أن الحوار يعتمد فى كثير من أجزائه على الجمل المباشرة، وليس هذا من طبيعة الفن الدرامى ولكن من طبيعة الأعمال التسجيلية. ومن خلال مشاهدتنا للمسلسل على اعتبار أنه يدور بجزءيه حول جماعة الاخوان المسلمين فكان لابد من التعرف على بطل المأساة أو البطل التراجيدى. وكان حسن البنا فى الجزء الأول هو البطل التراجيدى وتعاطف معه معظم من شاهدوا المسلسل رغم حذف الحلقة الأخيرة التى جرى فيها اغتيال حسن البنا. وكان نتيجة هذا التعاطف أن تحققت غاية المأساة وهو الخوف والشفقة. وربما كان السبب فى ذلك هو اختيار الممثل البارع الذى قام بدور حسن البنا ومنهج تمثيله المؤثر الذى رفضه برتولد بريخت فى كتابه «الأرجانون الصغير» حيث طالب فيه أن يكون الممثل موضوعيا للغاية ويبتعد تماما عن منهج ستانيسلافيسكى. نقول هذا الكلام ونحن نبحث عن البطل التراجيدى فى الجزء الثانى من مسلسل «الجماعة» فلا نجد أمامنا سوى سيد قطب وقد قام الممثل محمد فهيم بأداء هذه الشخصية ببراعة فائقة. وقد يقول البعض إن سيد قطب فى المسلسل شخصية شريرة تخلو من النبل فكيف نتعاطف معها؟ فنحن نقول لهم إن شكسبير لم يكن غافلا عندما كتب مسرحية «مكبث». فقد يبدو لنا لأول وهلة أن مكبث ليس شخصية تراجيدية تتسم بالنبل وترتكب الخطأ التراجيدى الذى يؤدى به إلى نهايته. فقد ارتكب مكبث خطأه بإدراك قوى وألحقه بأخطاء أخرى وهذا لايجعل منه بطلا تراجيديا تثير نهايته الخوف والشفقة. ولكن عبقرية شكسبير جعلته يتحول من شخصية شريرة تثير الكراهية إلى شخصية تستحق فى النهاية الشفقة والخوف عن طريق العذاب النفسى الفظيع حتى إنه لم يعد يستطيع النوم ونحن نذكر جملته الشهيرة «مكبث قتل النوم» وذلك كما شرحه الأستاذ برادلى فى كتابه الشهير «التراجيديا الشكسبيرية». وينطبق هذا الكلام على شخصية سيد قطب فهو ليس إنسانا عاديا ولكنه مفكر إسلامى وأديب وشاعر. ويقال إنه هو الذى أبرز قيمة نجيب محفوظ كروائى وليس كما وصفه عبدالناصر فى المسلسل. وعندما يتم تعذيب هذا النوع من البشر وإعدامه فإنه يصبح على الفوز شهيدا وبطلا تراجيديا يثير الشفقة والخوف. ومشاهد تعذيب أفراد الجماعة بمثل هذه القسوة تثير دائما التعاطف عند المشاهدين. خاصة أنها مرتبطة فى أذهانهم بمشاهد التعذيب فى الأفلام المصرية للمناضلين الوطنيين على يد الفئة الباغية. وخاصة أن الصورة التى قدمها المسلسل لعبدالناصر وهى فى رأى الصورة الحقيقية على أنه شخصية مكيافيلية تسعى إلى السلطة بأى شكل من الأشكال لا عهد له، وكان التسلط وكرهه للديمقراطية وميله للقهر والاستبداد من صفاته وهذا ما وضح فى المسلسل فى علاقته بالرئيس محمد نجيب الذى أحبه الناس حبا حقيقيا والتفوا حوله ولو كان استمر فى الحكم لكان لمصر شأن آخر وربما أنقذنا من هزيمتنا فى اليمن وفى يونيو 1967. لم يكن هناك داع أبدا لذكر هذا الكم من الكتب كمراجع للمسلسل، فهذا دليل على أن الكاتب لايريد أن يفرق بين الفن والتاريخ. فإذا كان هذا هو هدفه فكان عليه ألا يقحم نفسه فى فن الدراما ويكتفى بتأليف كتاب عن جماعة الاخوان المسلمين. فلم يذكر الذين كتبوا أعمالا فنية مستوحاة من التاريخ والمراجع التى استعانوا بها مثل شكسبير فى المسرح وسير والترسكوت فى الرواية، وكذلك توفيق الحكيم عندما كتب جوهرته «السلطان الحائر» وفريد أبوحديد ومحمد سيد العريان وعلى أحمد باكثير. فكان الوحيد الذى يذكر المراجع فى رواياته هو جرجى زيدان الذى كتب روايات خلفيتها التاريخ الاسلامى لأنه كان يدرك أنه يكتب عن أحداث دين غير دينه. نشيد بأداء الممثلين ياسر المصرى أفضل من قام حتى الآن بدور عبدالناصر والعظيم عبدالعزيز مخيون، وطبعا مرة أخرى محمد فهيم والممثل العبقرى الذى قام بدور حواش. فقد كانوا جميعا السبب فى تعاطف الناس مع أحداث هذا المسلسل، فهل كان هذا هو غاية المؤلف؟ لمزيد من مقالات مصطفى محرم ;