كانت ثورة 23 يوليو قد وضعت لنفسها ستة أهداف رئيسية، أنجزت منها هدفين بشكل نهائى: الخلاص من الاستعمار، وإقامة جيش وطنى قوى أعاد للمجتمع وظيفته العسكرية بعد أن عادت إليه وظيفته السياسية بالاستقلال عن بريطانيا. ربما هزم الجيش عام 1967، وفقدت مصر آنذاك جزءا من ترابها الوطنى، ولكنه تمكن من إعادة بناء نفسه وتجاوز محنته فى أكتوبر 1973. تلا ذلك ثلاثة أهداف متداخلة وهى: تحقيق عدالة اجتماعية، والقضاء على الإقطاع، وعلى سيطرة رأس المال على الحكم، وقد تحققت بدرجات متفاوتة عبر العصور الثلاثة للجمهورية الأولى. أما الهدف السادس، وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة، فظل ممتنعا عليها جميعا، إذ لم يسع إليه عبد الناصر من الأصل، مدفوعا بأن عهده كان بمثابة رد فعل على تجربة ليبرالية بدت له غير فعالة فى تحديث المجتمع. ولم يخلص له السادات الذى مارس تعددية مقيدة، جسدتها تجربة المنابر الحزبية منذ عام 1976، انتهت به إلى تعديل دستورى لزيادة فترة حكمه لم يستفد منه سوى خليفته حسنى مبارك، الذى لم يضف جديدا بدوره إلى تلك التعددية الشكلية، رغم تغيرات حدثت فى الديكورات المصاحبة.وهكذا استمرت مصر تعانى مما يمكن تسميته ب «فجوة حرية «أو» معضلة ديمقراطية» قياسا بما كان لديها من موروث ليبرالى من العهد الملكى قبل 1952، أو بما صار إليه العالم من موجات تحرر متتابعة أعقبت الانهيار السوفيتى 1991. غير أن هذه الفجوة استمرت فى حدود الأمان السياسى استنادا إلى صفقة شاملة تم تدشينها منذ العهد الناصرى، تعهد بموجبها النظام الحاكم القيام بدور الدولة الراعية للمجتمع كله وليس الدولة الحارسة التى تكتفى بإدارة الصراع بين الطبقات، وذلك عبر إجراءات عدالة اجتماعية جذرية (تأميم وقوانين عمالية اشتراكية، وتوزيع الأراضى على صغار الفلاحين بحسب قوانين الإصلاح الزراعى، مع مجانية مطلقة للتعليم، وفرص واسعة وكذلك متكافئة للتوظيف فى كل المهن تقريبا، ناهيك عن دور تدخلى للدولة فى التصنيع وتشغيل العمالة). وفى المقابل تمتع النظام بدور الأبوية السياسية، وانفرد تماما بالسلطة، سواء من خلال اعتماد تنظيم سياسى أحادى يسد كل طريق على إمكانية التنافس السياسي، أو حتى من خلال الصيغ المراوغة للتعددية المقيدة. بانتصاف السبعينيات أخذت عوامل التعرية تهب على تلك الصفقة، حيث انقلبت نخبة الحكم الساداتى على البنية الاجتماعية للمشروع الناصرى، ومنذ التسعينيات تخلت نخبة حكم مبارك تدريجيا عن رعايتها للقاعدة المجتمعية العريضة، بحجة تحرير الاقتصاد وضرورات الخصخصة، وكان ذلك مبررا كافيا للخروج من فلك الأبوية السياسية إلى فضاء الديمقراطية، ليدور التنافس السياسى حول صياغة عقد اجتماعى جديد ترتضيه الأغلبية، لكن تلك النخبة رفضت تحرير السياسة، وهنا وقع الزواج المحرم بين الثروة المحررة والسلطة المغلقة، وأخذت الفجوة «الديمقراطية» تخرج عن حدود الأمان حتى هبت عاصفة 25 يناير، التى شعر المصريون خلالها بأنهم استعادوا السيطرة على مصيرهم. غير أن الأيام توالت، شهورا وأعواما، داروا خلالها فى فلك حكومات انتقالية، وصوتوا فى استفتاءات دستورية وانتخابات برلمانية ثم رئاسية، ليجدوا أنفسهم فى مواجهة حكم دينى رجعى يحاصر مؤسسات الدولة الوطنية ويحاكم ضمائرهم، فكانت الموجة الثورية الثانية قبل فى 30 يونيو قبل أربع سنوات، لم يلامس المصريون خلالها أيا من أحلامهم، بل صاروا أكثر فقرا وأقل تحررا عما كانوا عليه قبل 25 يناير، ذلك أن الصفقة المباركية المختلة ظلت على حالها، بل إن سنوات الاضطراب السياسي، مضافا إليها عدم رشد القرار الاقتصادى، جعلا منها صفقة هزلية، حيث تبنت الحكومة توجها يمينيا زاعقا، واندفعت إلى تحرير الاقتصاد بسرعة لا تمكنها من تجنب مخاطر الاحتكار والعشوائية، بل أعطت جماعات الضغط الاقتصادية فرصا كبيرة للتربح على حساب جموع الناس. وفى المقابل فإنها ترفض تحرير السياسة، وتصر على التحكم فى كل مفاصل المجال العام، وحصار المجتمع المدنى، ناهيك عن إقصاء الأحزاب عبر قوانين انتخابات دفعتها إلى خارج البرلمان لصالح طوفان مستقلين، أنتجوا برلمانا حرم المصريين من قوة الممانعة الفعالة لطوفان القرارات المتحيزة، التى تعول ظاهريا على صبر المصريين ووطنيتهم، فيما تستثمر جوهريا فى مخاوفهم الأمنية أفرادا وجماعات. وإعلاميا تم قمع بعض الأصوات المتمردة ، وإعادة هندسة الإعلام الخاص عبر عمليات دمج وتخارج لصالح رجال أعمال، ناهيك عن إنشاء قنوات جديدة ، فضلا عن الحصار الظاهر للنقابات المهنية الكبرى خصوصا الصحفيين والمحامين والأطباء. وهكذا اختلت الصفقة وأصبحت مصدرا لضيق المصريين، الذين تبرر لهم حكومتهم إجراءاتها المتعسفة بالأسعار العالمية للسلع والخدمات، من دون أن تمنحهم رواتب عالمية باليورو والدولار، أو تتحمل مسئوليتها عن انهيار قيمة العملة الوطنية، أو تضبط الأسواق لمنع الاحتكار، أو تمنحهم مجالا عاما بمعايير عالمية، يضمن لهم حق الاعتراض العلنى على كل إجراءاتها، فالمواطن الذى يتعين عليه أن يدفع ثمن السلعة أو الخدمة كاملا، تحقيقا للمصلحة العامة، له الحق فى تحديد ماهية تلك المصلحة من الأصل، وفى تحديد الأجدر على الاضطلاع بمسئولية تحقيقها، وفى الرقابة عليه لاحقا، لتبقى الصفقة عادلة، أما مطالبة المواطن بواجباته دون تمكينه من حقوقه، فتعنى أن يدفع ثمن مغامرات الحكومة، وأن يتحمل أعباء سياسات تفتقد إلى العدالة والكفاءة. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;