يمثل تكوين الدولة القومية حلما لا يفارق الأكراد علي مدى التاريخ، وباستثناء بعض الفصائل الكردية الإسلامية التي تتحفظ علي فكرة الحدود بين الدول الإسلامية فإننا لا نكاد نجد فصيلا سياسيا كرديا لا يراوده هذا الحلم ، قد يناقش البعض مدي ملاءمة الظروف الداخلية و الخارجية لتحقيق حلم الدولة، لكنه يتطلع لتحقيقه فور تغيرالظروف. وفيما يخص العراق فإنه بسبب الظروف التي مر بها منذ عام 1991 استطاع إقليمه الكردي أن ينتزع لنفسه حكما ذاتيا تحول إلي وضع فيدرالي بنص دستور عام 2005، ثم قام هذا الإقليم الفيدرالي بتوسيع صلاحياته الفعلية بما يتجاوز كثيرا الصلاحيات المناظرة في التجارب الفيدرالية الأخري، ورغم ذلك لم تتوقف المطالبة بحق تقرير المصير للأكراد وحمل لواء هذه المطالبة بالأساس مسعود برزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيس إقليم كردستان. وفِي يوم 7 يونيو الحالى طرأ جديد علي هذا الملف إذ اجتمع رئيس الإقليم مع الأحزاب السياسية الممثلة في كل من البرلمان والحكومة واتفقوا علي تنظيم استفتاء علي حق تقرير مصير الإقليم و «المناطق الكردستانية» يوم 25 سبتمبر المقبل . وفور انتهاء الاجتماع أخذت تتوالي ردود الفعل المعارضة، سواء من حكومة بغداد أو من الجارين الأكثر تأثرا بالقضية أي تركياوإيران أو من دول غربية علي رأسها الولاياتالمتحدة وألمانيا، كما أعلنت الأممالمتحدة أنها لن تشارك في مراقبة الاستفتاء المرتقب دون طلب رسمي من الحكومة العراقية . وفِي تفسير سبب الإقدام علي تحديد موعد الاستفتاء بعد أن ظل هذا الأمر مؤجلا لدينا ثلاثة اتجاهات أساسية، الاتجاه الأول يربط الموضوع بالتطورات الإقليمية عموما وبالحاجة لمعاقبة تركيا علي وقوفها إلي جانب قطر في أزمتها مع الدول الخليجية خصوصا، ويعتبر هذا الاتجاه أن تقرير مصير الأكراد ليس إلا جزءا من مخطط تفكيك المنطقة، وهنا جرت الإشارة إلي رمزية اختيار تاريخ الاستفتاء قريبا من تاريخ الانفصال بين مصر وسوريا في 28 سبتمبر 1961. والاتجاه الثاني وهو الذي تتبناه قوي كردية مختلفة، فمضمونه أن العقد الاجتماعي الذي أبرمه الأكراد مع حكومة المركز بموجب دستور 2005 فقد أركانه الأساسية ، وهنا يُشار إلي التلكؤ في حسم قضية المناطق المتنازع عليها وكركوك في القلب منها، كما يشار إلي نكوص بغداد عن بعض التزاماتها تجاه كردستان وبالذات لعدم صرف نسبة ال 17% المقررة للإقليم في الموازنة العامة للدولة . والاتجاه الثالث يتعامل مع خطوة الاستفتاء، باعتبارها عملا يهدف للضغط علي حكومة حيدر العبادي من أجل انتزاع بعض المكاسب السياسية والاقتصادية. وفِي تقديري فإن الاتجاه الثالث هو الأوقع، ففي حالة الأكراد بالذات يعتبر العامل الخارجي أحد أهم العوامل التي تمنع انفصالهم بعكس ما يقول الاتجاه الأول في التفسير، ولنتأمل رد فعل تركيا الفوري علي الاستفتاء رغم العلاقة القوية التي تربطها مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، فليس من المعقول أن تركيا التي تعارض بقوة قيام كيان كردي في سوريا تتسامح مع قيام هذا الكيان في العراق - دع عنك التفريط في التركمان الذين يسكنون كركوك. كما أن إيران بدورها ترفض بشدة قيام دولة كردية في العراق ليس فقط خوفا من أكرادها، لكن أيضا لأن في كردستان حقولا للنفط وللمركز نصيب فيها. كذلك فإن المواقف الغربية تصب في الاتجاه نفسه لأسباب مختلفة منها مثلا أن خطر داعش لا ينتهي بطرده من المدن، وبالتالي توجد حاجة لاستمرار الاصطفاف ضده، ومنها الحرص علي مصالح تركيا كدولة عضو في حلف شمال الأطلسي. أما الاتجاه الثاني في التفسير فمن الصعب أن نتقبل تكييفه الأحادي للعلاقة بين طرفي العقد الاجتماعي، أولا لأن العلاقة بين المركز والأقاليم في عدد من التجارب الفيدرالية تكتنفها مشاكل ولأجل حل هذه المشاكل يتم الاتفاق علي مجموعة من الآليات والضوابط، وثانيا لأنه إذا كان المركز أخل ببعض التزاماته فإقليم كردستان فعل الشئ نفسه ولنا في استحواذه علي الضرائب والجمارك المفروضة علي الواردات العراقية خير شاهد، كما لنا في تصرفه المنفرد في ثروته النفطية شاهد قوي آخر. لذلك أقول إن تفسير اللجوء للاستفتاء بالرغبة في استخدامه كورقة ضغط في توزيع المناصب السياسية والعوائد الاقتصادية هو التفسير الأرجح، وهذا هو الجانب الهين في الأمر حين تبدأ المفاوضات، أما الجانب الأصعب فهو المتعلق بالمناطق المتنازع عليها بحكم تشابك المصالح وتعقدها فقد سبقت الإشارة إلي تركمان كركوك وهنا أضيف أن بعض أجزاء كركوك مازالت تشهد عمليات كَر وفر مع تنظيم داعش كما في قضاء الحويجة مثلا. لقد تحققت في الفترة الأخيرة مكاسب جيدة يمكن استثمارها وتطويرها، أهمها اشتراك البيشمركة مع الجيش العراقي في محاربة داعش، وهذه الشراكة تنم عن اقتناع بأن الخطر واحد وأيضا المصير، وبالتالي فنحن بحاجة لأن يجلس الفاعلون الأساسيون إلي طاولة المفاوضات لتبديد الهواجس وتحقيق التوافق، وأظن أن مصر يمكن أن تلعب دورا في تقريب وجهات النظر وأن وساطتها يمكن أن تكون مقبولة، أما سياسة التهديد بالانفصال فغير مجدية فلا الخارج يدعمها ولا الداخل الكردي حتي مهيأ لها، صحيح أن اجتماع 7 يونيو اتفق علي وحدة الصف الكردي إلا أن المشكلات السياسية لا تحلها «كبسة زر» كما يقولها اللبنانيون فمازال برلمان كردستان معطلا من 2015 ومازال مسعود برزاني رئيسا تجاوز التمديد له بعامين ، وهذا يعني أن مبررات التوتر موجودة. لمزيد من مقالات د.نيفين مسعد;