لطالما تعرض الفن والإبداع إلى هجوم ضارى من جانب شرائح اجتماعية محافظة تحت شعارات حماية الأخلاق، وهو ما يخالف النظرية الجمالية فى النقد لدى «كروتشيه» والتى تقول: «الفن ليس محاكاة للطبيعة، بل هو خلق مستقل عنها، فلا جمال ولا قبح فى موضوع الفن، فهو يصف الخير ويصف الشر، ووصفه جميل فى كلتا الحالتين» مايعنى أن العمل الفنى يجب أن يقوم تقديره ونقده على أساس واحد، وهو أنه عمل فني، عمل فنى فقط، وليس شيئا آخر، ومن ثم فإننى أرى أن التقييم الأخلاقى للإبداع يعد خطيئة كبرى من جانب أولئك الذين تناولوا مسلسل «لا تطفيء الشمس». ............................................................................ صحيح أنك إذا قرأت الرواية أو سبق وشاهدت الفيلم، فسوف تكتشف أننا أمام عائلة محافظة، فالأم أرملة مات عنها زوجها وترك لها خمسة من الأبناء، يقوم الخال «شقيق الأم» بتدبير أمور حياتهم، وبالتالى يسيطرة على مقدراتهم، حتى إن الأخ الأكبر أصبح مهتز الشخصية، بل غير قادر على أن يكون بديلا عن الأب، ولا منافسا لدور الخال فى قدرته على السيطرة على العائلة، لكن يبقى السبب الجوهرى فى ذلك كله هو تغيير رؤية الأحداث ورسم الشخصيات الجديدة، من جانب «حبيب» على غرار ما حققه من نجاح جماهيرى كبير العام الماضى فى نحت عمل مقتبس، وهو مسلسل «جراند أوتيل» ، ومن هنا فإنه يحاول هذا العام استثمار النجاح برواية إحسان عبدالقدوس، وتقديمها برؤية عصرية، أظنها حققت جانبا كبيرا المتعة ذاتها التى حصلنا عليها فى مسلسله الرائع العام الماضي، من خلال مشاهدتى للحلقات. وعلى قدر تحفظى على بعض الشخصيات وعلاقات الحب المتقلبة فى الرواية الأصلية والسيناريو معا، فيحسب لتامر حبيب نجاحه فى إدراك حقيقة أن هنالك اختلافا فى الفترة الزمنية بين المسلسل والرواية؛ فأحداث الرواية - كما نعلم - تدور فى فترة الخمسينيات من القرن الماضي، بينما تجرى أحداث المسلسل فى وقتنا الحالي، وبالتالى لابد من وجود اختلاف فى التفاصيل والمواضيع التى ستثار على مدار 30 حلقة، ومع ذلك فلم يمنع ذلك «حبيب» من أن يكون البناء الدرامى للشخصيات متقاربا إلى حد كبير، ولقد جانبه الصواب أيضا فى معالجة تطرق الرواية إلى عدد من المواضيع والأفكار، منها علاقة الفرد بالمجتمع وما يفرض عليه من عادات وتقاليد، إلى جانب التفاوت المادى والفكرى بين الطبقات، وكأنه يتبع «فورستر» فى تعبيره «إن المبدع يخلق شخوصه»، ولذلك لم يعتمد فى التطور السردى للقصة على القدرية أو منطق المصادفة؛ وهو أمر نادر حتى فى إبداع «إحسان عبد القدوس» نفسه؛ فقد عرف عنه أن ذاته كمؤلف تسيطر على منطق العمل الفنى الذى يحمل دائما رؤى تتوافق مع مبدعه وتحمل وجهة نظره، ولذلك كان إحسان يسجل هدفه من إبراز هذه العيوب، ألا وهى أن يحس الناس أن أخطاءهم ليست فردية ؛ بل هى أخطاء مجتمع كامل؛ أخطاء لها أسبابها وظروفها داخل المجتمع؛ ونشر هذه العيوب سيجعلهم يسخطون وسيؤدى بهم السخط إلى الاقتناع بضرورة التعاون على وضع تقاليد جديدة لمجتمعنا « وهو ما حققه تامر حبيب على وجه صحيح فى سيناريو بالغ الدقة فى معالجة التفاصيل، مستندا لحوار يبدو عفويا شيقا ممتعا إلى حد كبير. أحببت هذا المسلسل بكل أبعاده وتفاصيله وبدون تعقيدات النقاد، فالبساطة هى سر نجاح هذا العمل، إنها دراما أدبية عن الحب، وهذا وحده يكفى ليضيف لها سحرًا خارج المنافسة، ويختلف فى الوقت ذاته عن الرواية الأدبية فى تقلبات الماضى والحاضر، وبالتالى فهى ليست خاضعة للوصف إلا عبر الكاميرا، فقد برع «محمد شاكر خضير» فى صناعة لغة بصرية مدهشة، بمزيج هائل من الأفكار والصور التى تتناغم مع الشخصيات والأماكن فى الارتكاز على رسم الخارطة البصرية، وعلى شحن المفارقة، وتجييش التشويق والإثارة، كما بدا لنا فى أداء «مرفت أمين» إلى حد معقول لدور الأم «إقبال» كسيدة فى منتصف الأربعينات، تهتم بصحتها وجمالها فتبدو أصغر فى السن، وفى نفس الوقت تتعامل مع أولادها بحزم ممزوج بالطيبة والعقل، فى محاولة لربط العائلة برباط من الحب، رغم تباين الطباع، وقد كان من حسن حظها أن «عبد السلام» الذى أحبته قام بدوره المبدع السورى الكبير«جهاد سعد» الذى استطاع أن يحلق بشخصية العشيق دراميا فى آفاق الإبداع تجسيدا و تشخيصا، إلى حد أن لامس شغاف قلوب ملايين العذراوات فى توقها لتلك الحالة من الرومانسية، وهو ما وفر له قدرا كبيرا من الصدق الذى يؤكد فهمه العميق للأبعاد الجسمية والاجتماعية والنفسية للشخصية التى لعبها ببراعته المعهودة، ومن ثم انعكست طاقته الإبداعية على باقى فريق عمل المسلسل، وهو أمر يبدو لى طبيعيا جدا من جانب «جهاد»، ذلك المسرحى العتيق الذى أفهم جيدا تكنيكه الخاص فى كيفية قيادة المشاعر للفعل التمثيلي، لذا بدا تعبيره التمثيلى لشخصية «عبدالسلام» مناظرا لتعبيره فى الحياة الطبيعية المعيشة، وكأنه تعمد هنا استنساخا استعاريا من الأصل؛ فى لمساته الرومانسية الناعمة عبر خطاباته ورسائله، وسحر عاطفة إحلال صوت الشخصية محل صوته، وإحلال حركتها الجسدية محل حركته، منتفعا من تحليله لعلاقاتها ودوافعها فى الحدث الدرامي، ومستعينا بالتغذية المعرفية والتخيلية والانفعالية التى اكتسبها من واقع خبرته كممثل يعد علامة فارقة فى الدراما السورية، وأيضا كمخرج لأعمال مثل «الأشباح - هجرة أنتيجون - خارج السرب – كاليجولا - أواكس، هيستريا» وغيرها من أعمال كتبت المجد للمسرح السورى الذى يعده عشقه الأول والأخير. كاميرا «خضير» بلاشك قدمت لنا العديد من شخصيات المسلسل فى إطار مبهر يقوى على تأكيد براعة السيناريو والحوار، فبفرط من دهشة الأداء العذب ظهر لنا «محمد ممدوح» فى دور الإبن الأكبر «أحمد» الشاب ذو القامة الطويلة والصدر العريض، والذى يبدو من الخارج رجلا جاد له وقار واحترام يحاول السيطرة على عائلته وأشقائه، لكنه من الداخل شخص حائر يرى نفسه منافقًا وجبانًا يستسلم لكل ما يحيط به، كما أنه دائم الهروب من المشاكل، يكره تحمل المسئولية والمواجهة، وهو ما ممكن تشخيص «ممدوح» لأفعاله تشخيصا متشظيا ومتداخلا ومنقسما داخل ذاته، خاصة فى مشهد بكائه على طاولة الإفطار متذكرا شقيقه «آدم» ليدخل غرفته بعدها بمونولج داخلى يغالب فيه بكاءه الهيسترى المكبوت ليسجل بهذا المشهد «ماستر سين» الحلقات ال 15 الأولى ، تماما كما برع من قبل فى إيصال كل المعانى التى تجعله غير قادر على الهروب من أفكاره، فهو مدرك لذلك كله فى تنقله بين أقنعة فكرية متعددة، حيث يعيش «أحمد» فى مرحلة طويلة من البحث عن الذات، يدخل بسببها فى دوامة من التشتت وطرح الأسئلة المتعلقة بواجبه نحو عائلته، وكيفيه تعامله مع أشقائه، وهل يعيش بعقلية متفتحة ومتطورة أم محافظة ومحبة للسيطرة، كل ذلك عبر عنه بلغة جسد تشير إلى إدراكه حقيقة أن جسد الممثل له حضوره المطلق دائما، إذا كان يستند لموهبة حقيقية تجعله يعتمد على الرموز والأصوات غير اللفظية، فضلا عما يعرف بالأداء التحوّلى الذى يقوم الممثل من خلاله بالتقافز من أسلوب إلى أسلوب آخر، ومن دور إلى دور آخر، ليؤكد أن طاقته التمثيلية قادمة من معين لا ينضب، بل تزداد حلاوة شرابه على مر الأيام. وعلى نفس وتيرة الأداء الجيد تأتى «ريهام عبد الغفور» فى هذا المسلسل دون باقى أدوراها فى لوحة رمضان 2017 بشكل أكثر نضجا وتفاعلا مع شخصية «فيفي» فى تعقيداتها بالغة الصعوبة، مايعكس أنها ممثلة تمتاز بقدرة أو موهبة درامية قوية، مكنتها من أن تقبع خلف أستار من الرهبة والتردد وعدم الثقة بالنفس، ورغم ميلها النادر للفكاهة المصطنعة يعلو وجهها نوع من جدية وصرامة الشخصية حادة الطباع وسليطة اللسان وشرسة، تعترض على كل شيء فى البيت وعلاقتها بشقيقاتها فاترة لا تشاركهما الأسرار بحكم أنها متشددة الطباع لدرجة تضفى عليها بعضًا من الرجولة فى عيون الآخرين. وفى سياق آخر لبراعة التحكم من جانب المخرج ، يأتى «أحمد مالك» الذى يلعب شخصية «آدم» بأداء مفاجئ لى على الأقل، حيث نجح فى أن يمثل الصورة النقيضة لشقيقه الأكبر «أحمد» ؛ وهو يحمل بين جوانحه نزق ورعونة شاب جريء ومقبل على الحياة، يملأ المنزل صراخًا وضحكًا ويرفض الخضوع لتقاليد المجتمع ومنافقته، ليعلن تمرده بشكل هيستيرى على أثر فقدان معشوقته «حبيبة» وفى تحد عمدى يذهب لكسر كل التابوهات المفروضة على أسرة هى بالأساس غير محافظة، رغم تشدقها المقيت بالتقاليد، ومن ثم يحدث شرخا كبيرا على أثر قفزه نحول المجهول فى عمق النيل، وعلى غرار هذا النوع من الأداء العفوى النابع من موهبة حقيقية تأتى «مى الغيطي» فى دور «حبيبة» بأداء أكثر نضجا من أعمالها السابقة، فقد حققت التجسيد الكامل للدور الذى تؤديه فى إطار فهم البيئة التى نشأت فيها، ومن ثم فقد تفاعلت معها تفاعلا حساسا وعميقا، وظنى أنها أصبحت قادرة على اصطفاء المفيد وإطراح غير المفيد، ما يجعلها تملك تشكيل خبرة درامية جيدة للغاية فى المستقبل، خاصة أن لديها عقلا ذكيا سريع الاستجابة. وعلى درب المتعة يأتى أداء «أمينة خليل» لشخصية «إنجي» حيث استطاعت أن تخضع ذاتها وأفكارها ومشاعرها التى تفضى إلى الصدق الفنى تجاه الشخصية التى تعد الأهدأ والأكثر اتزانا وقوة شخصية بين الشقيقات لأنها تجمع بين طيبة القلب وحكمة العقل، ما يشير إلى أن «أمينة» أصبحت تدرك جيدا فن المعايشة للشخصية الذى يوصف به الممثل فى فهم العوالم الخفية للشخصية ، وكذلك الحال مع «جميلة عوض» فى أداء دور «آية» حين اتكأت على التمثيل التلقائي، وإن كانت بحاجة إلى ضبط مخارج ألفاظها، إلا أنها لجأت للارتجال العفوى الطبيعي، والإكثار من الألعاب الفطرية المتنوعة المبنية على المحاكاة والتقليد، والاهتمام بالتخييل الإيهامي، والانسياق وراء التشخيص الذاتى الاعتباطى الذى يناسب الجمال المبهر والروح العنيدة والعاطفة القوية لفتاة تربطها علاقة عاطفية بملحن مشهور يكبرها ب20 سنة، ورغم تحفظى الشديد على شخصية «رشا» المثيرة للجدل، إلا أنها سجلت روعة الأداء ل «شيرين رضا»، فى مقاربة جمالية تكتب لها التميز فى هذه النوعية من الأدوار فى سياق الأداء التمثيلي، والتركيز على لغة الجسد، والتعامل معه لا بوصفه جسداً يتحرك، وإنما جسد يفكر وينتج ليصنع التوازن المنشود مع الروح والواقع. وتبقى فاكهة هذا العمل الفنانة القديرة «عارفة عبد الرسول» التى قدمت جهدا استثنائيا فى أداء دور الخادمة «بسيمة» بطريقة هزلية جلبت لنا بلاشك قدرا هائلا من المتعة والسرور على مر الحلقات، لكن هذا لا يمنع أن العلاقة بينها وبين مخدوميها تحتوى على بعض المبالغة أحيانًا، عندما توجه لهم الإهانات أو تكشف أسرارهم أمام الضيوف، لكن باعتبارها واحدة من عتاة الأداء المسرحي، فقد استطاعت أن تعتمد فى أدائها على أسلوب المبالغة الممنهجة فى استخدام الكلمة والحركة والموقف، والنكتة بطريقة الإسقاط على الإحداث وكسر التوقعات، والتناقض فى سلوك يبعث على ذلك الضحك المثير، والتورية التى تخفى مقصداً آخر غير المقصد الظاهر. وأخيرا يبقى مسلسل «لاتطفئ الشمس» هو الأهم من حيث البطولة الجماعية فى هذا الموسم، وستدرك السحر بنفسك ولو بمشاهدة حلقة واحدة من هذا العمل، بفضل سيناريو وحوار بين الشخصيات ليس له مثيل فى ما قد تشاهده على الشاشة سقط سهوًا فى نهر الحب، وقلما نجد عملًا يحكى عن الحب وكفي، حيث نجح «حبيب» فى رسم الشخصيات وإضاءة المساحات المظللة فى الراهن الاجتماعي، من خلال الإطلالة على نهر اليومى المعاش، وذلك باجتزاء مقاطع عرضية مطولة من هذا اليومى المستمد من عوالم حب وعاطفة «إحسان عبد القدوس» المعروف عنه أنه كان يرسم بخياله لوحات رواياته، وبقلمه يكتب تفاصيلها التى تعكس مكنونات النفوس التى ينفذ إليها كمحلل نفسى بارع يسجل الهواجس والسقطات والتأملات التى تمرّ بها النفس الإنسانية.