أن يدفعك عمل فني للبحث، فهذا أمر يثير الكثير من التساؤلات. وأن يمنحك عمل فني هذه الطاقة من البهجة والشجن، فهذه مجرد إجابة على أحد التساؤلات. لكن المغامرة الفنية على مستوى الكتابة والإخراج تجعلك أنت أيضا تغامر برؤيتك. مسلسل "لا تطفئ الشمس" برؤية وحوار تامر حبيب، وإخراج محمد شاكر خضير، فاتحة خير للفن المصري. فالكاتب والمخرج لم يقوما فقط بإعادة قراءة الرواية، وإنما غامرا أيضا ببناء عالم فني - نفسي - اجتماعي كامل ملئ بالتفاصيل اليومية الحياتية التي تجعلك تشعر بالدهشة وكأنك تقف لأول مرة أمام مرآة وترى كل ملامحك الداخلية وأفكارك كما ترى بالضبط ملامحك الخارجية. السيناريو والحوار المكتوبان بفهم نوعي وذكاء وحرفية رفيعة وحب انعكسا على أداء الممثلين المبني على فهم عميق وواسع لدور الممثل وضرورة الوعي بأبعاد الدور لكي تكتمل شروط الأداء. هذا الكلام يُكتَب مع نهاية الحلقة ال 11. لا يهم كيف ستسير الأمور بعد هذه الحلقة. لكن حالات البهجة والشجن وخفة الدم والعفوية، وشبكة العلاقات النفسية تؤكد أننا أمام مشهد فني حِرَفي بأدوات يقودها العقل والإحساس والذوق في خطوط متوازية وهارمونية نادرة في "قفة" المسلسلات المصرية الرديئة التي هبطت بنا وبأذواقنا وأحاسيسنا إلى القاع المظلم. قد يكون الإيقاع البطئ في بعض المشاهد والشوتات الطويلة بدون أي داعٍ، من دول ميراث المسلسلات العتيقة، وأعتقد أن المخرج الخبير محمد شاكر خضير الذي استطاع أن يبهر المشاهد والمتخصص المصريين بأعمال سابقة، وبهذا العمل أيضا، قادر في أعمال قادمة على تجاوز ميراث الإيقاع البطئ والمشاهد الطويلة التي كان من الممكن أن يفسد المَشَاهد نفسها، ويحول الحالة النفسية والروحية من الشجن إلى الحزن. وفي كل الأحوال، فهذه المشاهد قليلة، يمكن تجاوزها بين الهارمونية الطاغية على إيقاع المسلسل بشكل عام، وتجانس المَشَاهد عموما وتناسبها مع إيقاع الحياة الحديثة وحركة الشباب على مستوى الجسد والعقل والاكتشاف. وعموما فالموسيقى العظيمة وغير التقليدية للمبدع أمين بو حافة ساعدت على كسر طول المَشَاهد وبطئ الإيقاع، ولم يستطع الحزن أن يكسر بهجة الحياة وشجنها في هذه السيمفونية - المسلسل. إن مغامرة مسلسل "لا تطفئ الشمس" تجاوزت ما يسمى ب "التجريب" بارتكازها على إعادة قراءة واعية لنص رواية إحسان عبد القدوس، وللفيلم الذي أخرجه صلاح أبو سيف بممثلين كبار في الزمن الماضي، وربما لمسلسل قديم أُخِذ أيضا عن الرواية. ولكن إعادة القراءة هنا لم تكن فقط للرواية والفيلم والمسلسل، وإنما تعدت ذلك إلى إعادة قراءة المجتمع المصري الحديث على مستوى التفكير والسلوك. أي ببساطة، نجح الكاتب والمخرج في استيعاب الفكرة الأساسية للعمل الأدبي، وقاما بنقلها إلى مجتمع مختلف تماما، عبر رؤيتين أساسيتين: رؤية الكاتب – السيناريست، ورؤية المخرج ربان السفينة والمسيطر على منظومة العلاقات لكل ركابها. المغامرة ارتكزت أيضا على فريق الممثلين الذي لم يكن يعمل بأنانية أو يستعرض عضلاته في الأداء المنفرد، بل انغمس في سيمفونية جماعية حققت معادلة العمل الجماعي عبر الأداء (الإبداع) الفردي. وبالتالي، لم تكن التعبيرات الإنجليزية غريبة عن إيقاع الممثلين وأدائهم، ولم تكن غريبة على المجتمع بكافة شرائحه، ولا حتى عن المشاهد مهما كانت درجة معرفته للغة الإنجليزية. كما جاءت الإفيهات أيضا غير مقحمة، ولم تعط المشاهد انطباعا بأن الممثلين (داخلين لبعض قافية). بل جاءت في شكل تعليقات سريعة وذكية، أو ردود مناسبة تماما للموقف. ممثلو مسلسل "لا تطفئ الشمس" يشكلون ثروة فنية نادرة. فنحن أمام أدوات فنية تحمل في داخلها وعيا وقدرة وطاقة، وفهما لطبيعة أدوارها، وأبعاد هذه الأدوار. وبالتالي، لا توجد مفاجآت في حالات تحول الممثلين نفسيا وروحيا، ولا توجد انعطافات حادة مفاجئة في انتقالهم من مستوى نفسي إلى مستوى نفسي آخر. هناك حالة من الهارمونية والتجانس والوعي ليس فقط بطبيعة الدور، ورنما أيضل بطبيعة الأداء وبطبيعة فن التمثيل. كنت في غاية القلق، خلال الحلقات الأولى، بشأن أداء آية (جميلة عوض). ولكن في الحلقة العاشرة، بدأت شخصيتها في التغير أو التحول. وبدأت تظهر تحولات نفسية واضحة جدا في أدائها الذكي. في الحلقة العاشرة تحديدا، بدأت آية تدخل في منطقة نفسية مُرَكَّبة نجحت في أدائها بدون تكلف. ووفقا لمنطق التمثيل المصري، فاللص أو النصاب أو الغاضب عليه أن يخدع أو يسرق أو ينتقم وفي الوقت نفسه ينظر في الكاميرا ليشرح للمشاهد ذلك. لكن (جميلة عوض) كانت تمارس حياتها وانتقامها الطفولي البسيط، ولكن الأنثوي أيضا، بشكل طبيعي وعفوي. هذا إضافة إلى طبيعة عملها وانشغالاتها. فهي موسيقية لها تركيبتها النفسية الخاصة. هذه الطبيعة تختلف من حيث الحركة والتعبيرات في 3 مستويات: عندما تتعامل مع زميلها شادي (محمد الشرنوبي) الذي يدرس معها، وعندما تتعامل مع أي من إخوتها أو أخواتها، وعندما تكون مع هشام (فتحي عبد الوهاب). نحن أيضا أمام مجموعة أخرى من الممثلين: هشام (فتحي عبد الوهاب)، ورشا (شيرين رضا)، وأحمد (محمد ممدوح)، وآدم (أحمد مالك)، وفيفي (ريهام عبد الغفور)، وإنجي (أمينة خليل)، وشهيرة (مريم الخُشت)، وبسيمة (عارفة عبد الرسول)، والدكتور سعد (محمود الليثي)، وحبيبة (مي الغيطي)، وخالد كمال (الأسطى عدوي)، وأحمد مجدي (يوسف)، وعمرو عابد (محمود). نحن أمام شخصيات من لحم ودم نراها كل يوم ونتعامل معها.. شخصيات تحب الحياة مثل أحمد والدكتور سعد، حتى فيفي الكئيبة، ولكنها لا تعرف بعد كيف يمكن الاستمتاع بها أو ما هي الأدوات المناسبة لاكتمال المتعة.. وأمام شخصيات تعرف أيضا الحياة وتستمتع بها مثل رشا وآدم وشهيرة، ولكنها تفتقد – ربما من وجهة نظر الآخرين – إلى شئ ما يوازن بين هذا الانطلاق وبين الرسوخ على الأرض تفاديا لإثارة المشاكل الاجتماعية. ومع ذلك، فكلها شخصيات موجود تعيش معنا ونعيش معها. أما بسيمة وإنجي فهما بحاجة إلى مقالات خاصة بالفعل. كل من هؤلاء الممثلين بحاجة إلى مقال خاص عن طبيعة دوره، وفهمه لأبعاد الدور، وقدرته على أداء هذا الدور. نحن هنا أمام ممثلين "كبار" يفهمون التمثيل بطريقتهم وبمعايير تتناسب تماما لا مع إيقاع الحياة وطبيعتها، بل وأيضا وفق قواعد وتقنيات وآليات جديدة تحمل طاقة فنية وروحية للمشاهد، وتمنحه إمكانية لا نهائية على التأمل والفهم والدهشة. هنا تظهر قيمة الكتابة ورؤية الكاتب الذي يشبه الفتاة التي تعشق التطريز، فتمسك بخيوطها لتصنع أجمل ما يمكن أن تقع عليه العين. أما الرؤية الإخراجية التي منحتنا البهجة والشجن والدهشة، فهي بحد ذاتها ليست بالضبط تجربة، وإنما مغامرة تفتح أمامنا كافة الاحتمالات والحلول الفنية. "لا تطفئ الشمس" 2017، يعيدنا من جديد إلى مرسة التمثيل المصرية، وألق الفن المصري – الاجتماعي بدون عناوين ضخمة أو مقولات وعبارات "فخيمة". رؤية إخراجية بعيدة تماما عن التعليم والوعظ والنكد، والشعارات الزاعقة. هو ببساطة مسلسل عن الحياة، وجزء من الحياة بحلوها ومرها وخداعها وصدقها، عن التناقضات النفسية والاجتماعية وتصرفات البشر في مواقف متناقضة تبرز أجمل ما فيهم، كما تعكس أيضا أسوأ ما فيهم، ولكن بدون إصدار أي أحكام.