فى مثل هذه الأيام من شهر رمضان المبارك الموافق لشهر سبتمبر 2009، بدا لى أن السعودية مُقْبٍلة على صُنْع منجز معرفى سيؤدى للتغيير لا محالة، قد يكون بطيئا ولكنه سيحقق، بدايته الثقاقة والفكر، ونهايته ستشمل كل مجالات الحياة الأخرى، وهذا من منطلق أن المجتمعات القابلة للحياة، هى التى تنتح أفكارا، وقد وضحت ذلك فى مقال نُشر تحت عنوان «عقلانية» «العيسى».. والتغير المرتقب فى السعودية!.. وقد تساءلت فى المقال: هل يمكن أن يبدأ التغيير فى الدول العربية من السعودية؟. السؤال السّابق راودنى وأنا أصغى لإجابات الباحث السعودى الدكتورب أحمد العيسى، خلال حوار أجريته معه لتليفزيون أبوظبي، بل إنه مثّل هاجسا بالنسبة لى وأنا أستمتع إليه وهو يلقى محاضرة تحت عنوان:«احياء تراث المدرسة العقلانية الإسلامية» فى مجلس الفريق أول الشيخ محمد بن زايد ولى عهد أبوظبى نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة لدولة الإمارات العربية المتحدة ضمن الأمسيات الرمضانية. اليوم، يظهر التّغير فى السعودية على المستوى الفكرى على الأقل فى البعد الخاص بالميراث الدينى مُتجلياًّ فى تحقيق جملة من الأهداف، منها: أن الفعل الثقافى يأتى مُصَحِّحاً ومُنْقِذاً للفعل السياسى ومُهًيٍمٍناً عليه، وإن لم يبد بشكل علنى واضح، وإنما يتراكم مُؤَسِّساً بناءً معرفياًّ يُعوَّل عليه مستقبلاً فى تخطى حواجز الجغرافيا من جهة، وكسر منظومة القواعد المتحكمة فى مسار الأمة ووعيها من جهة ثانية. ومن أهداف التغيير أيضا: الانفجار الفكرى على كل المستويات المعرفيَّة، والعًمرية أيضا، حيث الخروج من ضيق الرؤية الأحادية ذات الطابع المذهبى إلى سعة القرآن، الأمر الذى يعنى مواجهة عملية للعصابات المُتصارعة من أجل استغلال الدين، سواء أكانت جماعات إرهابية وّظفت تفسيرات خارج سياقها الزمنى واستحضرت جرائم الماضي، أو جماعات تيار الإسلام السياسي، التى تعمل من أجل أن تكون فى السلطة مهما تكن التكلفة، أو حتى بعض الأنظمة الحاكمة التى توظف الدين لتحقيق أغراض سياسية. التغير الواقع فى السعودية اليوم، يظهر فى عدد من الكتابات لعل أهمها فى حدود قراءاتى هى تلك المؤلفات التى تحمل اسم كاتب مُجدّد يدعى «ابن قرناس»، وهو اسم مستعار لكاتب سعودى تشير المواقع الإلكترونية بأنه:«لا يهتم بالشهرة والأضواء، ولكنه ليس نكرة ولا متطفلاً على العلم، فهو من أسرة معروفة جداً فى السعودية ومتدينة جدا أباً عن جد، وأكب على القراءة منذ أن كان فى المرحلة الابتدائية، كما أنهى دراسته الجامعية من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض». ولمزيد من التوضيح تذكر المواقع الإلكترونية أيضا: أن «ابن قرناس» أمضى ما يزيد على 45 سنة متواصلة من البحث فى القرآن، مصحوباً بقراءات واسعة فى مجالات عديدة فى حقول المعارف والعلوم المختلفة باللغتين العربية والإنجليزية، مع الإلمام بعقائد المذاهب والفرق المختلفة للمسلمين، وما كَتِب عنها كثير من أهلها وكثير من مخالفيهم، وما كتبه حفنة من أشهر المستشرقين، بالإضافة لدراسة مستفيضة للكتاب المقدس على يد قس أمريكى لمدة عام ونصف، مصحوب باطلاع عام وغزير حول تاريخ ومعتقدات بنى إسرائيل واليهود وتاريخ ومعتقدات المسيحية، مع اطلاع على معتقدات أديان أخرى. بغض النظر عن تعريف الكاتب «ابن قرناس» وأيضا مهما يكن النقد الموجّه إليه، فإن كتاباته تُثَوِّر العقل، وتُخٍرج المسلم من مجال الحيرة إلى فضاء اليقين، وتُعيد بناء منظومته الفكرية من جديد، وتُخَلِّصُهُ من حرج أو استحياء النفور من قضايا كثيرة أخذت طابع المقدس فى ميراثنا الدينى والتاريخي.. إنه باختصار يجعلنا نحتكم لكتاب الله ونُحَّكُمُه فى كل قضايانا.. فهو مفكر هذا العصر بالنسبة لى بلا منازع.. لا أدرى كيف يرى الآخرون مؤلفاته؟، ولكنى أجدها تقدم إجابات لأسئلة كثيرة طاردتنى خلال مسيرتى الدراسية والبحثية والإعلامية، وحتى التربوية. من يقرأ كُتُب «ابن قرناس» عليه أن يتحلّى ويتميز بالصبر أمام الصدامات، وعلى إعادة بعث اليقين، وعلى زيادة الإيمان من جديد، وعلى القبول بتجاوز مَحنة النقل إلى حيث حسم العقل، والأكثر من هذا الصبر على إعادة قراءة وفهم القرآن من جديد.. إنه يفرغ فى القارئ الصَّابر طبعا شحنات التَّدفق المعرفى، وهو الذى بدأ الكتابة فى سن متأخرة جداً، بعد تجاوزه سن الخمسين، ومع ذلك فقد قدم لنا جملة من الكتب المرجعيَّة والموسوعية أيضا، وهي:«سُنَّة الأولين تحليل مواقف الناس من الدين وتعليلها» 2006، و«الحديث والقرآن» 2008، و«رسالة حول الخلافة» و«حكم الله» 2008، و«مسيحية بولس وقسطنطين» 2009، و«أحسن القصص»2010، و«رسالة فى الشورى والإنفاق» 2012، و«الشرعة والمنهاج جزءان» 2015. مهما يكن، فقد وجدت فى مؤلفاته ضالتى دون التسليم بكل ما جاء فيها وهى حلمى فى حدوث تغيير فى العالم العربى فى كل المجالات، خاصة فى مجال الفكر، لذلك طرحت، منذ نهاية العام 1984 فى مصر، السؤال التالى: من أين سينطلق التغيير فى الوطن العربى؟، وكان، ومن الذى تفضلوا بقبول إجراء حوار معى حول هذا الموضوع الدكتور«محمد أحمد خلف الله»، رحمه الله، رئيس مجلة «اليقظة» فى ذلك الوقت، كانت تصدر عن حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوي، ومؤلف كتب كثيرة منها: «القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة». المهم أن الدكتور خلف الله قال لى يومها: «إن التغيير فى الوطن العربى، سيأتى إما من السعودية أو الجزائر»، وحين سألته: لماذا السعودية أو الجزائر بالتحديد؟، أجابنى بالقول: التغيير الفاعل يعتمد على مرجعية مؤثرة تراكمت عبر الزمن، والسعودية تملك هذا، ففيها بُعثت رسالة التغيير للبشرية كلها وليس للعرب فقط، والجزائر قامت بأكبر ثورة فى العصر الحديث، ونتج عن تلك الثورة قيماً فاعلةً ومؤثرة فى تاريخ البشرية.. وواضح اليوم أن توقع خلف الله تحقق، أو على وشك الحدوث، وقد رجحت كفة السعودية، وما كتابات ابن قرناس إلا دليلاً على ذلك. لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه;