ليس هناك تعارض بين أن تعشق العامية المصرية الجميلة وأن تعشق فى الوقت نفسه العربية الفصحي، الجميلة أيضا. وأنا أجد دليلا على ذلك فى نفسى، إذ أعجب وأتأثر بما أقرأه من شعر صلاح جاهين مثلا أو أحمد فؤاد نجم وأيضا بما أقرأه من شعر المتنبى أو نثر جميل لشكيب أرسلان مثلا، الذى وصف بأنه صاحب الامارتين، إمارة بحكم نسبه ومولده، وأخرى بسبب فصاحته وبلاغته. ما دام الأمر كذلك فلا عجب فى أن أشعر بالنفور مما ألاحظه من طغيان متزايد من جانب العامية الخالية من أى جمال على العربية الفصحي، فى الصحف والإذاعة والتليفزيون والكتب والروايات والإعلانات والمخاطبات الالكترونية..الخ، وأعتقد أن هذا الخطر لا يبشر بخير على الاطلاق فى مستقبل حياتنا الثقافية. يقلقنى أيضا أن أجد أن الذين لهم موقف مثل موقفى من طغيان العامية على الفصحي، أقل عددا مما كنت أتوقع، ويتناقص عددهم، وأن أجد بعض من يتخذون الموقف المضاد (أى من لا يرون شيئا سيئا فى هذا الطغيان) ممن كنت أتوقع منهم عكس ذلك، مما يزيد تشاؤمى بمستقبلنا اللغوى والثقافي، فإذا كان حتى هؤلاء لا يرون الخطر، فإلى أين نحن ذاهبون بالضبط؟. هذا القلق من طغيان العامية على الفصحى ليس جديدا بل يرجع إلى قرن مضى أو أكثر. ولكن هذا القلق كان يقترن فى البداية بالأمل فى أن تقترب كل منهما من الأخرى مع مرور الزمن، فتتخلص الفصحى شيئا فشيئا من الكلمات الصعبة قليلة التداول، وتتخلص العامية من الألفاظ التى يشوبها شيء من الابتذال، أو كانت نتيجة تأثر زائد على الحد بلغات أو لهجات وافدة تشوه اللغة القومية. كان الأمل فى ذلك معقودا على انتشار التعليم، بما يؤدى إليه من اختلاط اكبر من الفصحى والحياة اليومية، فتكتسب الفصحى حيوية ومرونة أكبر، وتتخلص العامية بالتدريج مما يؤذى الأذن أو الذوق، ولكن يبدو أن الذى حدث خلال نصف القرن الماضى لم يكن كذلك بالضبط. نعم، لقد انتشر التعليم بالطبع ووصل إلى أصغر القرى وأفقر الأحياء فى المدن، ولكن يبدو أن انتشاره جرى بطريقة أفادت اللغة العامية أكثر مما أفادت الفصحي، فالذين زادت أعدادهم بشدة لم يكونوا المتعلمين بقدر ما كانوا أنصاف المتعلمين، فزادت نسبة هؤلاء الأخيرين بشدة إلى مجموع السكان، بل سمح لهم الحراك الاجتماعى بالوصول إلى مراكز اجتماعية أعلى مما كان يتوقع أن يصلوا إليها، فإذا باللغة الأقل رقيا التى يستخدمها الصاعدون إلى مراكز عليا فى السلطة تكتسب مكانة أعلى مما تستحق، بسبب هذه المراكز نفسها، أدى أيضا الانتشار السريع لوسائل الاعلام، وعلى الأخص التليفزيون، إلى إلحاق الضرر باللغة المستخدمة، إذ كان الاغراء شديدا باستخدام لغة متدنية ولكنها أكثر انتشارا، من أجل تسويق السلع وتحقيق جماهيرية تجلب الثراء إلى جانب الشهرة. أدى هذا التطور للأسف إلى تضاؤل عدد الأعمال الجميلة، سواء من المكتوب بالفصحى أو العامية، إذ انخفضت نسبة الذين يستسيغون هذه الأعمال الجميلة فى مجموع القراء أو المستمعين، إن الجماهير التى أصيبت بتدنى ذوقها قادرة على «التشويش» بمختلف الطرق على النسبة الضئيلة من ذوى الذوق الأرقي،مما يؤدى إلى الانخفاض الشديد فى عدد القصائد الجميلة، المكتوبة بالفصحي، وكذلك الأزجال العامية الجميلة، بالمقارنة بما كانت عليه الحال فى منتصف القرن الماضي. وهى حالة لا ينتظر للأسف أن تنتهى فى المستقبل المنظور. هذا التطور الذى لحق اللغة المستخدمة، فصحى أو عامية، يتماشى مع تطورات أخرى حدثت مع مضمون الأعمال الأدبية والفنية، وربما كان التفسير واحدا فى الحالين، فالجمهور الذى يجد من الصعب أن يتذوق لغة رفيعة، من الأرجح أن يجد من الصعب أيضا أن يقبل على أعمال يحتاج مضمونها إلى مستوى أعمق من التفكير. هذا التطور حدث بالفعل، ليس فى بلادنا فقط، بل أيضا فى البلاد التى تعودنا على أن نعتبرها أكثر تقدما ورقيا فى مضمار الأعمال الأدبية والفنية. لقد لاحظت مع تكرار زيارتى إحدى هذه البلاد أن بعض دور السينما والمسرح التى كانت تحظى بإقبال شديد منذ خمسين أو ستين عاما، ولا تعرض إلا أفلاما أو مسرحيات رفيعة المستوي، ومن مختلف دول العالم، فقدت ما كانت تحظى به من رواج قديم، بل تم إغلاق الكثير منها لقلة الاقبال عليها. ولاحظت بدلا من ذلك رواجا فى المسرحيات الموسيقية التى تتسم بضخامة الانفاق على الإخراج والديكور، أكثر مما تتسم بجمال الموسيقى نفسها أو القصة. كل هذه الامثلة قد تكون مجرد امثلة لظاهرة أعم، وهى طغيان »الكم« على »الكيف«، أو النوع، وهى على الأرجح الثمن الذى يجب أن ندفعه (وبدأنا ندفعه منذ زمن ليس بالقصير) فى سبيل «الديمقراطية». هذه الظاهرة، التفت اليها بعض الكتاب الكبار منذ زمن طويل، ولكن فضل، كثيرون غيرهم انكارها أو تجاهلها، مسايرة من جانبهم للتيار الغالب، حتى استفحلت ولم يعد من السهل غض النظر عنها، حذر منها الكاتب الانجليزى إدموند بيرك (E. BURKE) فى كتابه الشهير عن الثورة الفرنسية منذ أكثر من قرنين (خواطر عن الثورة فى فرنسا)، وهى الثورة التى يمكن اعتبارها بداية للديمقراطية الحديثة، كما حذر منها الكاتب الفرنسى ألكسى دى توكفيل (A.de Tocyaville) فى كتابه الشهير أيضا (الديمقراطية فى أمريكا). ولكن يبدو أن هذه الظاهرة، التى بدأت منذ أواخر القرن الثامن عشر، لم تصل إلى نهايتها بعد. لمزيد من مقالات د. جلال أمين;