ربما تصاب بالحيرة حين تدخل عالم رواية «العشب» الصادرة عن الكتب خان للروائى المصرى «سعد عبد الفتاح» صاحب رواية «سفر الولي» لعدة أسباب؛ أولا العالم الجديد والمختلف الذى تدور فيه أحداثها، خاصة أنه ليس عالمه الفعلى الذى ولد وتربى فيه، فكيف لشاب لم يترك قريته فى المنوفية أن يعرف أدق التفاصيل عن دول أفريقية مثل موريتانيا والنيجر وتشاد ونيجيريا ودارفور وغرب السودان والسودان بصفة عامة، ليكتب لنا عالما روائيا واعيا؛ بالتاريخ والجغرافيا والنبات والتضاريس والرعى وسلوكيات البشر بتلك المنطقة التى ربما لم يرها قط، لكنها القدرة على الغوص فى أعماق العالم الروائى بجانب قراءة مكثفة ومتعمقة عن هذا العالم. ............................................................................ الشيء الثانى هو التكنيك المختلف الذى تناول به الروائى عمله، حيث قسم روايته إلى تسعة أبواب هي؛ الاقتلاع، والحرث، والغرس، والحصاد، والرحيل، والحصار، والحرب، والانتصار، والختام، وتعددت الفصول داخل كل باب. ويأتى دور «عبد الله ولد فال» و«عثمان إدريس دار»، وهما شخصيتان تقوم عليهما الرواية، فهما الراويان العليمان، ومن خلالهما نتعرف على الأحداث، ونرى كل شيء ونكتشف الشخصيات التى ظل بعضها محيرا وملغزا ومدهشا، مهما طال الوقت. والشيء الثالث هوعلاقة النظام المصرى قبل وبعد ثورة يوليو بالسودان وكيف وقفت القيادة المصرية مع انقلاب جعفر نميرى ضد المهديين، والرواى هنا محايد تماما، قدر الموقف بشكل موضوعى من وجهة نظر عيون بسيطة قتلها الاثنان؛ نميرى الذى سانده نظام ثورة يوليو، والإمام الذى لم يعد يهمه إلا مصلحته، وضياعه وثرواته وأراضيه، وحين اشتد الوطيس دفع البسطاء على الجانبين من العساكر والأنصار الثمن الفادح، بعد دك الجزيرة بالطائرات، واصطاد بعض أنصار الإمام الدبابات، وكانت تلك الحادثة الهدف الذى سعى إليه الروائي، ولم يهمنى تناول الأمر التاريخى المختلف عليه من الجانبين - المصرى والسوداني-، بل العالم الروائى المحكم الذى صنعه «سعد عبد الفتاح» على يد الراعى «طه السيد أحمد» الذى استطاع جمع من سيعيشون معه فى الوادى و يزرعونه بكل المحاصيل التى تزرع فى تلك المنطقة، ونكتشف فى النهاية أنه كان متعاطفا مع الإمام، وينتمى للمهديين، واستطاع إقناع «عبد الله ولد فال الشنقيطي» الذى ترك موريتانيا بعد القحط لكى يحج ماشيا، لعل الله ينعم على وطنه وقريته بالمطر، عصب حياة ذلك البلد، وأقنعة طه أن يبقى معه فى الوادى ليزرع ويقلع ليمكنه السفر إلى الحجاز ومعه بعض المؤن، والورق الرسمى المناسب. يقول متجاهلا السخرية على وجهى : - لدى أرض ولديك جسم فلنتقاسم ما سنحصد من خير، فتكمل رحلتك، وأحتفظ بما يقيم أود هذه العائلة. ويبدآن رحلة إصلاح الأرض وحرثها وزراعتها، ووافق على إحضار عائلة «عثمان إدريس دار» التى تبقت بعد مجزرة قادها متمردون فى نيجيريا بقيادة «أوجوكو» ضد أهل القرية المسلمين حين أرادوا الانفصال عن الدولة، ونجا من المجزرة عدد قليل من عائلة عثمان الذين عملوا معه، وهم عمه «إديلانو» التقى الذى تحول إلى ناقم ومحملا بقتل عائلته وعروسه التى لم يدخل فى المجزرة، وعشة وصغيرها وهمزة وأبكر. والشيء الرابع المهم فى الراوية؛ المرأة، حيث يشكل الراعى طه مع زوجته الأولى مريم ثنائيا غريبا، حيث يؤكد أن زوجته يمكن أن تخونه وقت مع أى أحد، ورغم هذا يحبها بشكل جنوني، ونكتشف أنه كان متعاطفا مع أزمتها النفسية بسبب موت أبناءها فى أم درمان بجوار الإمام. ونرى حدة تعاطف الراعى طه معها حين تموت مريم محروقة، فهى لا تريد أن يقتل أو يحرق أبناءها ويؤكد عبد الله ذلك قائلا ص 80 و 81:«كنت آمل أن يشفيها صراخ مولود لها، لكنها كانت كلما شعرت بالجنين يتحرك فى أحشاها، سيطر عليها هاجس أنه سيحترق مثل الآخرين فلا تدعه ينمو، وتجهض نفسها مرات لم أعد أحصها، فى كل مرة ينخلع قلبى عليها، ليس خوفا من فراقها فحسب، ولكن حزنا على موتها وهى على هذه الحالة». وهناك شخصيات نسائية أخري؛ استطاع الراوى الغوص بأعماقها؛ مثل كلتومة وعشة، وإن ظللت أرى مريم أقوى الشخصيات النسائية، وتأتى بعدها كلتومة زوجة إدريس التى لم يدخل بها حين حدثت المجزرة فى قريتها يوم زفافهما، فاغتصبها بالوادى رغم أنها زوجته، فلم تنس له كلتومة فعلته، فصممت فى داخلها أن تنفصل عنه، وكانت تنظر الوقت المناسب لذلك، وحدث بالفعل، وتزوجت عبد الله فال رغم تحذيرات إدريس الذى كان يغار من عبد الله كثيرا ولا يحبه، وتأتى شخصية عشة التى فقدت ابنها فى معركة الجزيرة كمكافأة للراعى طه الذى عانى كثيرا من زوجته الأولى مريم، التى ماتت حرقا، فكانت الجزيرة المكان الأشد قسوة على زوجتيه مريم وعشة ؛ فقد قتل وحرق أبناء كلاهما على أرض الجزيرة بيد جنود النميرى وبسبب الإمام. واستطاع الكاتب تشكيل شخصيات مريم وكلتومة وعشة- داخل رواية العشب تشكيلا جيدا، من الناحية الجسمانية والنفسية والاجتماعية، وأعتقد أن تلك الشخصيات ستترك أثرا قويا لدى قراء الرواية، ولن تغادر مخيلتهم بسهولة.