تنهض رواية "يحدث في بغداد" (الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2014) علي عالم سردي يحتفي بتصوير عبثية الوضع العراقي المفعم بتراجيديا عربية تعيشها بعض مدننا وعواصمنا منذ سنوات وسنوات؛ وعلي رأسها بالطبع مدينة بغداد. ومع ذلك، لا تخلو جمالية هذا العنوان من مكر فنّي؛ حيث اتّكأ الكاتب في صياغته كثيرًا علي ذيوع رواية أحمد سعداوي "فرانكشتاين في بغداد" التي صدرت قبلها بعام واحد، والتي استطاعت أن تسوّق بامتياز لعبارة "... في بغداد" في سوق النشر الروائي، خصوصًا بعد حصولها علي جائزة البوكر العربية عام 2014م. فضلًا عن ذلك يتكئ العنوان علي عنوان قديم، ومحفور في ذاكرة الرواية العربية، هو رواية سياسية ساخرة كتبها يوسف القعيد عام 1976م بعنوان "يحدث في مصر الآن".إن كثافة عنوان رواية الكاتب العراقي رسول محمد رسول واكتفاءه الدلالي بذاته -من حيث هو عنوان قامت بلاغته علي بناء جملة فعلية فعلها مضارع- يفجّر في ذهن المتلقّي عوالم فسيحة من الخيال الذي يتجاوز فيه الواقع المعيش حدود المتخيَّل الروائي.إنها رواية داخل رواية، أو هي من نوع تلك الروايات التي تكتب نفسها بنفسها. فلم يكن مرهون الشاكر وسعيد الدهان سوي وجهين من وجوه الجيل الجديد الباحث عن حق العراق في حياة من نوع مختلف أكثر كرامةً وعدلًا، لكنّ براثن الإرهاب الغاشم، وأذرع الأفكار الظلامية، كان لهما رأي آخر. تنبني الرواية علي ثيمة بسيطة تقوم عليها حبكتها الروائية من بدايتها إلي منتهاها؛ هي ثيمة "البحث عن المفقود". فالرواية تمثيل سردي لرحلة بحث متقصٍّ، ومُضْنٍ،عن الفصلين الثاني والخامس من رواية عنوانها "ينحني الصابر للوجع"، كتبها بطل الرواية الغائب شخصًا الحاضر سردًا (مرهون الشاكر) قُبَيل وفاته، وهو عنوان جملة شعرية مقتبسة من إحدي قصائد الشاعر النمساوي الذي كان يكتب بالألمانية جورج تراكل George Trakl (1887- 1914م). يتولّي مرهون الشاكر رئاسة حملة البحث عن فصْلَي الرواية المفقودين، جنبا إلي جنب شبكة من الشخصيات التي تقطن الحيّ ذاته الذي كان يقيم فيه مرهون بمدينة بغداد (سعيد الدهان وزوجته مريم الشبلي، أمّ مرهون، الجار أحمد، الصديق حسن المزهون، الشاهد الوحيد خليل عبد الله نايف الشهير ب"أبو نادية"، الصحفية وفاء السامي،..). وفي رحلة البحث هذه، يكون الاكتشاف الصادم الذي يفجأ سعيد الدهان الذي ربما يستعير بعض حمولته الدلالية (حتي علي مستوي الجرس الصوتي للاسم) من سعيد مهران بطل نجيب محفوظ. وقد لا نجافي التأويل الصحيح بمسافة بعيدة إذا وصفنا رواية "يحدث في بغداد" بأنها تنطوي علي مسحة بوليسية في حبكتها تقارب كثيرا، بطريقة أو بأخري، حبكة "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، وهي حبكة توازي الواقع العراقي اللاهث والمأزوم والمتفسّخ الذي يحياه الأبطال الإشكاليون مثل مرهون الشاكر وسعيد الدهان، وغيرهما. بيد أن سعيد الدهان سوف يكتشف عفن المجتمع الذي كان يعيشه صديقه مرهون، وعفن الزوجة (نهي) التي كانت السبب المباشر في موت زوجها كمدًا، مكلَّلًا بعار الفضيحة والخزي. كما تكتشف مريم زوجة سعيد فداحة العهر والدَّنَس الذي تلوّثت به نهي، وأصابت به أمّ مرهون في مقتل. في هذه الرواية إيماءات دالّة إلي تردّي الواقع البغدادي، وبؤس الحياة التي يحياها البغداديون منذ التسعينيات، وفيها كذلك إدانة للجميع؛ بمن فيهم المثقف المنعزل، والضابط المتورّط في الجريمة، والإرهابي الخائن الذي لا يدين إلا لمَنْ يدفع له أكثر. في فضاء هذه الرواية، الكل مُدان، والكلّ مهان.أما من حيث الرؤية الثقافية أو المعرفية، فالرواية تمثيل ثقافي لوضعية الفوضي والعبثية التي تعيشها بغداد منذ سنوات ليست بالقصيرة. ويبدو أن ثمة مدنًا عربيةً أخري سوف تلحق بها في رحلة التّيه. إن في انتحار "نهي" بعبوة ناسفة كانت قد فجّرتها بمحض إرادتها بعد أن تعرّضت لعملية غسيل دماغ مارسها معها الإرهابي الذي كانت علي صلة بها، ولم يتبرّأ منها ضابط الدورية، حسب تتابع المنطق السردي، ما يمثّل إدانةً لجميع المؤسسات التي أسهمت في قتل الوطن وتدميره، حتي فاحت منه رائحة العفن في كل مكان.