ماذا لدى مصر كى تقدمه للسعودية؟ هذا سؤال ظل يؤرق كثيرين ممِن تابعوا زيارة الرئيس السيسى إلى الرياض طوال الأيام الماضية. منبع هذا السؤال هو طريقة تقليدية فى التفكير تفترض أن مصر بإمكانها أن تخرج الأرنب من القبعة فى أى وقت تريده. هذا افتراض مبدئى يقود حتما إلى اكتشاف أن العلاقات المصرية - السعودية هى علاقات بيع وشراء، أو مقايضة شئ بآخر. هذا غير صحيح. ثمة تحالف تاريخى وتماه سياسى ورؤيوى مرن بين البلدين. فى يوم يصعد وفى اليوم التالى يهبط. رغم الأمراض التى تعترض هذا التحالف، فهو لا يموت أبدا. السعودية هى رأس الحربة فى دعم مصر منذ سقوط نظام الإخوان المسلمين عام 2013. هذا كلام لا يقبل الشك أو المراوغة. لولا الدعم الخليجي، والسعودى خصوصا، لم يكن ليبدو المشهد فى مصر على ما هو عليه الآن. الغرض الأساسى من هذا الدعم كان مساعدة مصر على العودة للوقوف على قدميها مرة أخرى. هذا لا يعنى أن المصلحة لم تكن غرضا آخر يقف خلف كل هذه المليارات التى تم ضخها فى هذا الجسد الضخم كى تعود الروح إليه. المصلحة هى التخلص من نظام الإخوان المسلمين. السعوديون يدركون أن الحدود الجغرافية غير كافية لوضع حدود سياسية أمام تطلعات التنظيم. الرؤية كانت أن يعمل الإخوان انطلاقا من مصر على زعزعة دول الخليج من الداخل، وأن تعمل إيران على تطويقها من الخارج. تسليم الخليج للمتشددين السنة والشيعة معا كارثة. المساعدات الخليجية أوقفت مصر على قدميها، ووقفت كذلك حائلا أمام قسم ظهر المنطقة بأسرها. فى حالة الاهداف القومية والاستراتيجية الأعلى، لا يكون للأموال ثمن. الحلفاء لا يديرون تحالفاتهم اعتمادا على بطاقات الأسعار الثابتة الموضوعة على المنتجات الرخيصة فى المتاجر. علاقات كهذه وجودية، لا تقبل المساومة أو التراخى وقت الجد. من حق كثيرين أن يستفسروا عما قدمته مصر لحلفائها فى المقابل. هذا السؤال يكون منطقيا فى حالة التفكير فى مصر وحلفائها بمنطق حسابى يعد كل دولار انتقل من هناك إلى هنا، والعكس. السؤال الحقيقى هو: هل انتهت التهديدات التى تواجهها مصر؟ وماذا عن قطر ودعمها للمتشددين؟ إذا كان مطلوبا من مصر دعما فى مواجهة إيران، فمن يدعمها فى مواجهة قطر؟ التحالف المصرى - السعودى يشبه التحالف بين الولاياتالمتحدة وأوروبا. إذا ما تداعت الولاياتالمتحدة فستنهار أوروبا، وإذا ما سقطت أوروبا فستخسر الولاياتالمتحدة كل شيء. كاد هذا سيناريو أن يتحول إلى واقع قبل ثمانين عاما فقط. عندما كانت أوروبا، بقيمها الليبرالية وانفتاحها الثقافى وتعددها الاثني، على وشك الاختفاء من على الخارطة خلال الحرب العالمية الثانية، سارع الأمريكيون للتضحية، بأرواح الآلاف من أبنائهم للحفاظ على هذه القيم من الغزو النازى القبيح. لم تنتظر الولاياتالمتحدة حينها مقابلا حقيقيا. هذه تضحية بالدم، وليس بشيء رخيص أو هامشي. بعد انتهاء الحرب حوّل الاقتصاد الأمريكى جهده لإعادة بناء أوروبا بعد أن سوتها الحرب بالأرض عمليا. ب13 مليار دولار وصلت إلى أوروبا. كم ملياراً كان لدى الولاياتالمتحدة وقتها كى تضخ مبلغا هائلا كهذا؟ فى تسعينيات القرن الماضى شكلت حرب البوسنة خطرا على وحدة أوروبا. كان هذا أخطر تهديد حقيقى منذ سقوط حائط برلين. لم تنتظر الولاياتالمتحدة كثيرا قبل أن تقود تحالفا غربيا تمكن بالقوة من انهاء الحرب التى راح ضحيتها عشرات الآلاف. لكن ماذا قدمت أوروبا للولايات المتحدة مقابل كل هذا؟ الإجابة تتلخص فى أن العقيدة الأمريكية بنيت طوال الوقت على أن سقوط أوروبا فى براثن الشيوعية (أيام الاتحاد السوفيتى) سيعزل الولاياتالمتحدة عن بقية العالم. انهيار الرأسمالية فى أوروبا يعنى أن سقوط النظام السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى الولاياتالمتحدة صار مسألة وقت. هذا التشابك العضوى بين الجانبين هو العمود الفقرى للتحالف الذى ظل قائما منذ سقوط النازية. كل من يقف على ضفتى المحيط الأطلسى يفهم ضرورات وأبعاد هذا التحالف جيدا. من يقف على ضفتى البحر الأحمر ولا يفهم أن هناك تحالفا مماثلا بين مصر والسعودية يعرض هذا التحالف لخطر محدق. من هذا المنطلق يجب أن يطرح السؤال حول مصيرية العلاقة بين مصر والسعودية بطريقة معكوسة عن السؤال الأول؛ وهي: من قال إنه لزاما على مصر أن تقدم أى شيء كماقبل للدعم الذى حصلت عليه؟ ثمة حقيقة غائبة عن كثيرين وهى أن وقت الجد الذى وقف فيه الخليج مع مصر لم ينته بعد. عدم رؤية الجماعات المتشددة تحتل المجال العام فى مصر يعنى أنها نزلت تحت الأرض، ولا يعنى أنه تم القضاء عليها. تفجير الكنائس والهجمات التى لا تتوقف على رجال الجيش والشرطة فى سيناء أحد أوجه هذا التغيير المظهري. هذه الجماعات لها داعمون. أحد أكبر هؤلاء الداعمين هى قطر. الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله كان أكثر من فهموا أنه لا يجب ترك أى هامش لحرية الحركة أمام هذه الدولة المارقة. تحجيم التأثير القطرى فى ملفات المنطقة يتناسب طرديا مع تحجيم بيئة الإرهاب فى دولها. على الجهة المقابلة، إيران تحرز مكاسب ذات أبعاد طائفية فى سوريا واليمن والعراق ولبنان. السعودية تشعر بتهديد وجودى وتتطلع إلى مصر للحصول على دعمها، بعدما تأكدت من عدم إمكانية الثقة فى تركيا خصوصا. إذا كانت إيران تهديدا للأمن القومى العربي، فقطر هى القنبلة الموقوتة التى ستنسف هذا الأمن برمته. يجب على السعودية، ومعها باقى دول الخليج، أن تكون لها وقفة هنا. الجميع يعرف النفوذ المجرب الذى تتمتع به السعودية على قطر. كان هذا واضحا فى زمن الملك عبدالله. حان الوقت كى تستخدم السعودية هذا النفوذ مجددا. حصول حلفاء مصر على أى دعم يحتاج أولا أن تتمكن هى حقا من الوقوف على قدميها. هذا سيأتى عبر منحها الفرصة كى تنجح فى حربها الضروس على الإرهاب. أول خطوة نحو هزيمة الإرهاب هى تجفيف منابع تمويله وحصارها، وهو ما يعنى البدء بقطر. بعد ذلك ستكون مصر قادرة على إخراج الأرنب من القبعة. لمزيد من مقالات أحمد أبودوح;