كلما ازدادت الدعاية المسمومة الموجهة للجيش المصرى ازددت يقيناً بعظمة هذا الجيش ومحورية الدور الذى يقوم به فى حماية الدولة الوطنية فى مصر ، ويتصور الأقزام عادة أن بمقدورهم أن يمسوا هذا الجيش وسمعته ببعض الأعمال الصبيانية، غير واعين بأن هذه الأعمال لا يكون لها مردود إلا فضح ضآلتهم ، ولقد سبق لى أن كتبت فى هذه الصفحة مقالاً بعنوان «عساكر الجزيرة» علقت فيه على ذلك الفيلم المتهافت الذى أنتجته تلك القناة فى محاولة لإثبات أن الجيش الذى يصنف عالمياً وفقاً لأقسى المعايير وأشدها صرامة بأنه ضمن أقوى اثنى عشر جيشاً فى العالم يعانى من سوء التدريب وشكليته والعصف بحقوق مجنديه.. ومنذ أيام تكررت محاولة تقويض دور الجيش المصرى فى محاربة الإرهاب بشريط فيديو هزيل يزعم أنه يقتل «ضحاياه» بدم بارد ويتضمن كرنفالاً من الأزياء واللهجات لا يمكن نسبته إلى جنود الجيش المصرى، ولذلك فإننى عندما فكرت فى أن أكتب عن الذكرى الغالية لاستكمال تحرير سيناء وجدت أن أفضل مدخل هو أن أُذَكر من لم يعاصر هذه الأحداث بقصتى مع الجيش المصرى ، فكل من سوف يتم خمسين عاماً من العمر فى يونيو المقبل أو قبلها لم يشهد ما شهده جيلى من براهين على عظمة هذا الجيش ، ففى يونيو 1967 وقعت الهزيمة المفاجئة والمرة من إسرائيل وزاد من وطأتها الأليمة أننا كنا نعيش أجواء تحرر وطنى وتنمية وعدالة اجتماعية ودور عربى وإفريقى بل وعالمى من خلال حركة عدم الانحياز ناهيك . كنت فى ذلك الوقت فى سنتى الجامعية الثانية وأظلمت الدنيا فى وجهى ووجوه زملائى وأبناء جيلى، وتصورت على ضوء الخبرة التاريخية وضراوة المشروع الصهيونى وقوة حلفائه أننى لن أعيش حتى أشهد استرداد الكرامة المصرية . لكن الأمر لم يتطلب سوى أيام كى تغادرنى حالة انكسار الروح التى اجتاحتنى بعد الهزيمة، ففى شهر الهزيمة نفسها جرت معركة رأس العش التى فشلت فيها القوات الإسرائيلية فشلاً ذريعاً فى أن تهزم وحدة عسكرية صغيرة فى ذلك الموقع المهم ، وكان معنى ذلك بالنسبة لكل مصرى هو رفض الهزيمة والقدرة على تجاوزها ، وأعترف بأن قلقاً هائلاً كان يغمرنى طيلة المعركة فقد كنت أتوقع الهزيمة وأُشفق على كل مصرى من وطأة تجدد آلامها ، لكن الأبطال صنعوا بداية لتاريخ جديد سرعان ما تأكد بغارات الطيران المصرى على سيناء فى الشهر التالى للهزيمة ثم وقعت ملحمة البحرية المصرية فى أكتوبر 1967 أى بعد أربعة أشهر فحسب بإغراق المدمرة «إيلات» ثم بدأت الحرب المصرية - الإسرائيلية الرابعة أى حرب الاستنزاف التى شهدت أعمالاً خارقة من دكٍ لحصون العدو بالمدفعية إلى أعمال عبور جسورة إلى معركة بطولية فى شدوان إلى عمليات فذة للضفادع البشرية المصرية فى إيلات إلى أن وقعت معجزة العبور فى أكتوبر 1973 ، وكلها أعمال أدعو شبابنا لقراءة ما كتب عنها وخاصة بأيدى أبطال القوات المسلحة أنفسهم حتى يتأكدوا من قدر جيش مصر الذى دافع عنها عبر العصور وقدم فى سبيلها عشرات الآلاف من الشهداء ومازال يقدمهم راضياً فى حربه على الإرهاب بعزم لا يلين ووطنية لا تنكسر ، وبعد ذلك يتصور الأقزام أن هذا الجبل يمكن أن يهتز بعبث الصبية . لم يكتف جيش مصر الوطنى بدوره فى حماية أمن الوطن ضد العدوان الخارجى وإنما لعب على الدوام دوراً استراتيجياً فى الحفاظ على حقوق أبناء الوطن وكرامتهم بدءاً من أحمد عرابى وصيحته المشهورة فى وجه خديوى مصر طالباً المساواة والكرامة للمصريين ومروراً بثورة 23 يوليو ودورها فى دعم الاستقلال والتنمية والعدالة الاجتماعية وهو دور مازال له من يخاصمه لكن التاريخ سوف يحسمه كما حسم مراحل قبله ووصولاً إلى الانحياز للشعب فى ثورتى يناير ويونيو، ولولا هذا الانحياز لكانت مصر الآن لا قدر الله تزامل عدداً من جاراتها التى شهدت جيوشها انحيازاً أعمى للحكام أو ضعفاً فى الانتماء الوطنى فكان ما نراه الآن من أوضاعٍ مأساوية ، بل إن دور الجيش المصرى لايقف عند هذا الحد وقد كنت منذ أيام قليلة فى أكاديمية ناصر العسكرية العليا أشارك فى مناقشة بحث من بحوث الزمالة التى تمنحها كلية الدفاع الوطنى بالأكاديمية لعسكريين ومدنيين ولمصريين وعرب وأفارقة بل وآسيويين فى بعض الأحيان ، وهى بذلك تلعب دوراً خارجياً مهماً ، وكثيراً ما كانت الظروف تجمعنى بقيادات عسكرية حالية أو سابقة فى القوات المسلحة لبلدان عربية عديدة فأجدهم يفخرون بتلقيهم العلم فى المؤسسات التعليمية المختلفة للقوات المسلحة المصرية بدءاً بالكليات العسكرية المصرية ومروراً بكلية القادة والأركان وانتهاءً بأكاديمية ناصر ، وكم شعرت بالفخر يوماً فى إحدى الندوات التى كنت أحضرها فى بلد عربى فإذا بأحد المشاركين وهو شخصية عسكرية خليجية بارزة يتحدث باعتزاز عما تعلمه من الفريق محمد فوزى عليه رحمة الله عندما كان هذا المشارك طالباً بالكلية الحربية إبان قيادة الفريق فوزى لها، وعندما شكرته لاحقاً رد بأن تأسيس جيش بلده تم على أيدى الضباط الذين تعلموا فى مصر . هذا هو جيش مصر الذى يتصور الأقزام أن بمقدورهم أن يمسوه بسوء بأكاذيب مفضوحة لا تنم إلا عن غباء صارخ وحقد دفين ، ويراهن بعض هؤلاء الأقزام على أن ثمة جدلاً يدور أحياناً حول الدور السياسى والتنموى للجيش المصرى، وليعلم هؤلاء أن رهانهم خاسر فمثل هذا الجدل لا علاقة له من قريب أو بعيد بمكانة الجيش المصرى فى قلوب المصريين وعقولهم وهو جدل يدور حول أمور لا تصل إلى مداركهم الضيقة . لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد