كثير من الناس يتهرب من ذكر موعد النكسة التي هُزمت فيها القوات المصرية في عام 1967 دون أن تُختبر قدراتها في موقف قتالي حقيقي .. ولقد كنت ممن عانى من آثار النكسة دون أن يكون لي أي دور في أسبابها . فلقد تخرجت مع أبناء جيلي من ضباط القوات المسلحة في أعقاب النكسة , وتعرضنا لمحنة نفسية كبرى إذ كان بعض أبناء الوطن حزانى لما جرى , ويعلقون علينا ونحن في الطرقات بأوصاف لا تليق وكنا نتحمل ذلك إلى اليوم الذي نستعيد فيه كرامتنا ونسترد أرضنا المغتصبة , ولاشك أن هزيمة يونيو كانت صدمة لجيل ثورة 1952 حتى أن جمال عبد الناصر فكر في الانسحاب من المشهد فيما سُمي بخطاب التنحي بل إن الأعجب من ذلك أن مجلس قيادة الثورة آنذاك قد طرح فكرة الانتحار الجماعي هروباً من تحمل المسئولية أمام الشعب !!. ولقد كانت أحد الأسباب الأساسية لهذه الهزيمة هو غفلة القيادة العامة للقوات المسلحة عن الدور العسكري الأساسي المنوط بها وانشغالها بأعمال آخرى خارج اختصاصها , ولقد وقعت بعد ذلك محاكمات لعدد من القادة والمسئولين ولكن المسألة في النهاية كانت على حساب الوطن فلقد دفع الشعب الفاتورة الكاملة للهزيمة , وبدأت على الفور مراسم الاستعداد لبناء الجيش مرة آخرى بعد تدمير نحو تسعين في المائة من معداته , ولكوني عاصرت بناء القوات المسلحة كضابط برتبة ملازم في جهاز الاستطلاع لا أخفي على القارئ أن الجرح النفسي لنا كان أكبر من مجرد شراء معدات وأسلحة جديدة بل كنا بحاجة إلى صياغة مقاتل مصري بما تعنيه الكلمة من معان , وتدربنا كثيراً وتحملنا ما سمي بحرب الاستنزاف التي كانت أشبه بمعارك يومية صاروخية أو بالدبابات على طول الحدود المصرية , وعشت على الجبهة طوال السنوات الست قبل معركة أكتوبر 73 وشاهدت بنفسي الكثير من التضحيات أثناء بناء شبكة الدفاع الصاروخي ضد الطائرات , فكلما نجحنا في بناء قاعدة هاجمها اليهود وأعطبوا بعض معداتها , بل وقتلوا وجرحوا الألاف من أبناء الوطن الذين صمموا على إتمام الشبكة بنجاح ولقد تم لنا ذلك والحمد لله . ولقد عاصرت أيضاً بطولة المقاتل المصري الذي كان يشتبك بمدفعه المضاد للطائرات ولا تجفل عينه إلا بإسقاط الطائرة المعادية أو بسقوطه شهيداً أو جريحاً . إن العبور إلى نصر أكتوبر كانت بدايته عند معبر التقويم الشامل والكامل لنكسة 67 , ثم الخروج بالخطة الدفاعية الجديدة النشطة التي كانت تؤرق مضاجع اليهود على طول الحدود المصرية , فزرعت القوات الخاصة الألغام ونصبت الكمائن وجمعت المعلومات ليلاً ونهاراً , ولقد شرفني الله بالمشاركة في هذه المعارك فما كان يمر يوم إلا وأبلى الجيش المصري بلاءً حسناً في موضع من المواضع , وهكذا ارتفعت معنوياتنا إلى درجة أننا أحسسنا برغبتنا في العبور إلى الضفة الشرقية اليوم قبل الغد , ثم تقرر تحرير سيناء في أكتوبر من خلال خطة عبور فريدة من نوعها اشتركت فيها كافة أفرع القوات المسلحة وتخصصاتها في صناعة هذا النصر بل وشعرنا كمقاتلين أن الشعب يقف من خلفنا ليمحوا ذكرى هزيمة مريرة ويسطر ملحمة تاريخية يستحقها وطن كبير بحجم مصر . نعم كم تكون المحن قاسية ولكنها في الحقيقة مصدر علم جديد وتجربة مضافة إلى رصيد الخبرات , فيخرج المراء منها وقد عزم على امتلاك أسباب النجاح وتلافي أسباب الفشل . فاستيعاب المحنة لا يكون ميسراً لكل أحد بل لمن وفقه الله إلى الوقوف أمام نفسه طويلاً للتعرف على مثالبه وعيوبه وما ينطبق على الفرد والجماعة ينطبق على الدولة , فليتدبر الجميع !! فكم من أناس رأيناهم في حياتنا تتلاطم بهم الهزائم وتتعقبهم جحافل الفشل وهم يلقون بالتبعة على غيرهم من الناس دون أن يكون لهم نظرة إصلاح لأنفسهم التي هي في الحقيقة جوهر المشكلة التي يبحثون عنها . والله المستعان