مازلت أتساءل مستغربا عن الأسباب التى صرفتنا فجأة عن الدعوة لتجديد الخطاب الدينى فى هذه الأيام التى اشتدت فيها حاجتنا لتجديده وصارت أكثر إلحاحا. لأن تجديد الخطاب الدينى لم يعد مجرد هدف يمكننا أن نؤجل النظر فيه أو نتركه للمستقبل، ولم يعد مجرد عمل من أعمال الفكر نضيفه لما سبقه من أعمال، وإنما أصبح قضية أمن قومى أو بعبارة أخرى لا أتزيد فيها ولا أبالغ، أصبح تجديد الخطاب الدينى بالنسبة لنا الآن قضية حياة أو موت تهمنا جميعا وتدعونا لحلها قبل فوات الأوان. ولست فى حاجة لأذكركم بالضربات المتتالية الموجعة التى وجهها لنا الإرهابيون والمتطرفون فى سيناء، وفى القاهرة، وفى الإسكندرية، وفى المنيا، وفى الأقصر، وفى طنطا. لا أحتاج لأذكركم بالضحايا الذين يسقطون كل يوم من رجال الشرطة والجيش ومن المواطنين العاديين. ولا أحتاج لأذكركم بما يتعرض له المسيحيون المصريون وتتعرض له وحدتنا الوطنية ويتعرض له المثقفون المصريون الذين يتجرأون على نقد الخطاب القديم الذى مازالت مؤسساتنا الدينية تتبناه وتتعصب له. ولا أحتاج لأذكركم بما حدث وبما يحدث فى سوريا، والعراق، واليمن، وفى ليبيا، وتونس، وفى فرنسا، وألمانيا، وبلجيكا، وبريطانيا، وروسيا. لست فى حاجة لأذكركم بهذا لأن الارهابيين والمتطرفين وهم جنس واحد يذكروننا كل لحظة بأنهم لنا بالمرصاد، وبأن ما يرتكبونه من جرائم فى حقنا وحق غيرنا ليس إلا ترجمة عملية لما يدعوهم إليه خطابهم الديني، وهو الخطاب الدينى السائد حتى الآن. هذا العصر الذى نعيش فيه، وهذه الأفكار والمبادئ والقيم التى نهتدى بها، وهذه القوانين التى نلتزمها، وهذه الدول وهذه النظم وهذه المؤسسات التى نحيا فيها ونعيش فى ظلها كلها فى نظر الخطاب الدينى السائد حرام. كلها منكر يجب على المسلم أن يغيره بيده طالما استطاع. ولاشك أن جماعات الإسلام السياسى تستطيع، لأنها أصبحت تنظيمات واسعة محلية ودولية تملك الكثير وتتلقى الكثير وتطمع فى السلطة وتصل إليها كما فعلت داعش فى سوريا والعراق، وكما فعلت الإخوان فى مصر وتونس والسودان. فإن كنا أسقطنا حكمهم فى مصر فنحن لم نسقط خطابهم. وها هم الآن يعودون من جديد ليتحدثوا عن مصالحة. مصالحة مع من؟ لا ندري؟ وبشروط من؟ بشروطهم هم. لأنهم يتحدثون عن عودة للحياة السياسية يمارسون فيها على حد قولهم ما كانوا يمارسونه فى أيام مبارك قبل ثورة يناير، ليصلوا بالطبع كما يخططون إلى ما وصلوا إليه بعدها. فهل توقف الداعون لتجديد الخطاب الدينى عن مواصلة دعوتهم ليفسحوا الطريق لهذه المصالحة المريبة؟ فى اعتقادى أنها وهم. والحرب سجال بيننا وبين هذه الجماعات. ولن نحقق فيها نصرنا النهائى إلا بخطاب دينى جديد ننقذ به أنفسنا، وننقذ به العالم، وننقذ به هذه الجماعات الضالة! نعم. تجديد الخطاب الدينى هو طريقنا الوحيد لحياة آمنة مستقرة نستأنف فيها السير فى طرق النهضة التى لم نصل فيها إلى غايتها، ولم نحافظ حتى على المكاسب التى حققناها فيها. لأننا ترددنا دائما فى إصلاح فكرنا الديني، وظننا أننا قادرون على أن نعيش فى هذا العصر الحديث بالفتاوى المنسوخة مما كان معمولا به فى العصور الوسطي. وهكذا وقعنا فى الفخ الذى نصبه لنا الإخوان والوهابيون والسلفيون. فليس بعقلية العصور الوسطى نبنى دولة وطنية أو نقيم نظاما ديمقراطيا أو نفصل بين الدين والدولة، أو نتخلص من الطائفية ونصبح مواطنين، أو نحتكم للعقل ونكتشف الطبيعة ونقدس حقوق الإنسان، وإنما نحقق هذا كله بخطاب دينى جديد ينبع من ثوابت الدين ويتوافق مع ثوابت الدنيا وهى المصالح والمقاصد التى تتعدد الطرق إليها وتظل ماثلة أمامنا تهدينا سواء السبيل. فلابد من تجديد الفكر وتجديد الخطاب لنتجاوب مع العصر الذى نعيش فيه ونحافظ على ما نملكه ونحميه وننميه ونتغلب على المشكلات التى تواجهنا. إذن، تجديد الخطاب الدينى أمر لا يتعلق فقط بحربنا مع الإرهابيين والمتطرفين، وإنما يتجاوز هذه المسألة إلى كل مسألة نحتاج فيها للتخلص من فكر الماضى، وإلا فنحن معرضون دائما للوقوع فى فخاخه المنصوبة التى تشدنا إليها مهما ابتعدنا. لأننا نبتعد عن الماضى بأقدامنا ونظل مرتبطين به مشدودين إليه. نظن حين ارتدينا أزياء الحاضر واستخدمنا أدواته أننا صرنا من أهله وانفصلنا عن الماضى وتجاوزناه. والحقيقة إننا بأفكارنا ومشاعرنا خاضعون له موصولون به وأن الذين نصبوا لنا الفخاخ يستطيعون أن يشدونا إليها حين يشاءون فننشد ونتقهقر حتى نخرج من الحاضر الذى لم نعرفه ولم نتوطن فيه لنعود إلى الماضى ونقع فى فخاخه التى نصبها لنا كهنته وغطوها بوعود كاذبة يزعمون فيها أنهم تخلوا عن العنف وآمنوا بالديمقراطية واتفقوا على المصالحة! لكنهم بهذه الوعود الكاذبة لا يكذبون علينا وحدنا، بل يكذبون أيضا على أنفسهم. يريدون أن يعودوا للمجتمع وأن يشاركوا فى نشاطه، لكنهم يعجزون عن المشاركة. لأنهم محبوسون فى الماضى مقيدون بخطابه الذى يتوهمون به أنهم ملاك الحقيقة ووكلاء الملأ الأعلي، وأن لهم الحق وحدهم فى إبداء الرأى واتخاذ القرار. وهكذا فعلوا حين اشتغلوا علنا بالسياسة، وخاضوا الانتخابات، وفازوا، وشكلوا الحكومة، ورأسوا الدولة فعدلوا الدستور، وغيروا القوانين، وتحرشوا برجال العدالة، واضطهدوا المعارضين، وقرروا أن ينفردوا بالسلطة فاشتعلت الثورة وانطلقت الدعوة لتجديد الخطاب الدينى الذى لا نستطيع بدونه أن نكسب معركتنا مع هذا الخطر الداهم الذى لا يتمثل فى الإخوان وحدهم، وإنما يتمثل فى كل الجماعات وفى كل المؤسسات التى تدين بما يدين به الإخوان. وما علينا إلا أن نتصفح الكتب المقررة على طلاب المعاهد الدينية وطلاب المدارس الحكومية، وأن نستمع لبعض خطباء المساجد، وأن نتابع ما ينشر عن بعض المشتغلين بالقانون لندرك أن الخطر الذى نواجهه لا يتمثل فى الإخوان وحدهم! لمزيد من مقالات أحمد عبدالمعطى حجازى