حين نطالب بتجديد الخطاب الدينى كما نفعل منذ سنوات وسنوات، وحين نلح فى هذا الطلب، ونستعجل الوفاء به، نطالب بشرط أساسى للوجود نكون به أو لا نكون. هذا الشرط هو أن يكون فهمنا للدين عونا لنا على أن نعيش فى هذا العصر مع غيرنا من شعوب العالم، أحرارا متساوين، وإخوة متعاونين متضامنين، لا أن يكون الدين أو فهمنا له حائلا بيننا وبين العصر وأهله، وإلا فكيف تكون الحياة خارج العصر؟ وكيف تكون الحياة إذا فقدنا حقنا فى دولة مدنية، وفى نظام ديمقراطى، وفى أن نفكر بحرية ونعبر بحرية، وأعلنا الحرب على العالم، وأعلن العالم الحرب علينا؟! وهناك من يقرأ العبارة أو يسمعها فتتداخل فى سمعه ونظره، وتختلط المعاني، ولا يفهم من تجديد الخطاب الدينى إلا ما يفهمه من تجديد الأدوات والأجهزة التى نستعملها فى حياتنا اليومية، فبوسعنا أن نؤجل ذلك أو نمر عليه مر الكرام، غير أننا بهذا الفهم القاصر لتجديد الخطاب الديني، نقع فى خطأ لا يغتفر، ونعرض أنفسنا ونعرض العالم معنا لهذه الأخطار المهلكة التى لا نستطيع أن ننكر مسئوليتنا إزاءها. ولأننا نعتبر تجديد الخطاب الدينى نوعا من تجديد الوسائل والأدوات التى نستعملها ونستعين على تجديدها وإصلاحها بصناعها المحترفين، فنحن نعتبر الأزهر هو المسئول الوحيد عن تجديد الخطاب الديني، لهذا ننتظر عاما وعامين وعشرين عاما ولا نجد سامعا ولا مجيبا، وهو موقف يفهم منه عامة الناس أن تجديد الخطاب الدينى ليس حاجة ضرورية، والدليل على هذا أن المختصين المحترفين من علماء الأزهر لا يلقون له بالا. وليس هناك من يشك فى أن الأزهر طرف أساسى فى تجديد الخطاب الديني، لأن معرفته الإسلام لاشك فيها، وهو قادر بالتالى على الكشف عن جوهر الإسلام الذى يتوافق مع روح العصر وحاجاته وحاجاتنا فيه، لأن جوهر الإسلام هو جوهر كل الديانات والفلسفات التى تتفق كلها على ما تقوم به الحياة الإنسانية، وتتقدم وتتطور وتزدهر من قيم ومثل عليا لا تتأثر بمرور الزمن، بل تزداد بتجارب التاريخ، وتراكم الخبرات، وتواصل البشر تجليا وحضورا، وهذا هو ما يسميه فلاسفة القانون «القانون الأسمي» الذى يجب أن نحتكم له جميعا، ونصحح نظمنا وقوانيننا بالرجوع إليه. لكن تجديد الخطاب الدينى لا يحتاج لعلوم الدين وحدها، بل يحتاج معها وقبلها إلى علوم الدنيا ومعارفها وخبراتها التى يحسنها المتخصصون فيها، ويحسنها حتى الذين لم يتخصصوا، وإنما تلقوا ثقافتهم من الحياة مباشرة، ومن إخلاصهم لها وانخراطهم فيها. ولهذا نقول إن الأزهر مسئول دون شك عن تجديد الخطاب الديني، لكنه ليس المسئول الوحيد، لأنه بالإضافة إلى ما ذكرته ليس سلطة دينية تحتكر الرأى والفتوي، والإسلام لا يعرف هذه السلطة، وإنما الأزهر كما قلنا، وكما نعرف جميعا، مؤسسة علمية تشتغل بالتعليم، وتجيب عما تتلقاه من أسئلة المسلمين الذين يظل كل منهم مسئولا فى النهاية عما يري، وما يعتقد، وما يقوم به، وما ينصرف عنه.والخطاب الدينى إذن، ومعناه. فهمنا للإسلام، هو خطابنا جميعا، وتجديده مسئوليتنا جميعا وليس مسئولية الأزهر وحده كما قلت. لأن الأزهر كما يستطيع أن يكون منبرا للتجديد، يستطيع أيضا أن يكون منبرا للتقليد، ونحن نعرف أن الخطاب الموروث الذى أصبح خطابا رثا من ناحية، وأصبح خطرا داهما من ناحية أخري، وأصبح يحتاج لتجديد جذري، بل يحتاج لثورة شاملة هذا الخطاب الموروث هو الخطاب الذى تبناه الأزهر واعتبره تعبيرا عن الإسلام السني، ومن هنا نفهم هذا التردد فى الاستجابة الذى يصل ببعض رجال الأزهر إلى معارضة التجديد، والتمسك بكل ما ورثوه وبنوا عليه حياتهم. وقد تساءلنا فى حديثنا السابق عن موقف الأزهر مما جاء فى الوثيقة المنسوبة إليه، وعن مدى تعبير هذه الوثيقة عن فكر الأزهر واتفاقها أو عدم اتفاقها مع مواقفه التى يتخذها من القضايا المطروحة علينا، ومنها الفصل بين الدين والدولة، والمواطنة، وحرية التفكير والتعبير والاعتقاد، ورأينا أن مواقف الأزهر إزاء هذه القضايا لا تتفق أبدا مع ما جاء فى الوثيقة، ومن هنا فالسؤال المطروح الآن ليس عن علم الأزهر الذى لا نشك فيه، وليس عن قدرته التى نعترف بها على الاسهام فى تجديد الخطاب الديني، وإنما نسأل عن اقتناع الأزهر بالتجديد الذى أصبح بالنسبة لنا مسألة حياة أو موت. نعم.. نحن لا نطالب بشيء يمكن تأجيله أو السير فيه ببطء، وإنما نطالب بإطفاء حرائق مشتعلة، وإنقاذ أرواح ومدن وبلاد أصبحت مهددة بالموت والفوضى والدمار. انظروا لهذه الفتنة الطائفية التى تهدد وجودنا ولا تريد أو لا يريد لها البعض أن تنطفئ فى مصر. وانظروا لما يحدث فى العراق، وفى سوريا، وفى ليبيا، وفى اليمن. وانظروا لما حدث فى فرنسا؛ فى باريس وفى نيس، وما حدث فى بلجيكا، وما حدث يوم الجمعة الماضى فى ميونيخ، وانظروا لما سوف يحدث غدا وبعد غد، لأن النذر تتوالي، ولأن الأدوات جاهزة مستعدة تملك الكثير؛ داعش، والقاعدة، والإخوان، والسلفيون الذين تربوا جميعا على خطاب دينى فاسد مسموم، يحرضهم على القيام بما يقومون به فى بلاد تولى السلطة فيها طوال العقود الماضية طغاة جبابرة جهلاء، دمروا كل ما كان يمكن أن يعصمها مما تتخبط فيه، ويفتح لها طريقا إلى المستقبل، فارتدت بما عاشت فيه من طغيان، وما لقيته من هزائم، وما تعرضت له من جوع وخوف إلى عصور الظلام تلتمس النجاة فى غياهبها، ولا تجد من يردها إلى الصواب، وينير لها الطريق بخطاب دينى جديد. وأنا أقرأ وأتابع ما يحدث لنا، وما يحدث لغيرنا على أيدى هذه الجماعات المسلحة بفتاوى ابن تيمية وابن عبدالوهاب وحسن البنا وسيد قطب، فأشعر بأنى مسئول عن هذا الذى يحدث باسم الإسلام الذى نقرأ فى كتابه المنزّل هذه الآية التى تعد أساسا فى قانون البشرية الأسمي: «... من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»، والمعنى الذى نستخلصه من هذه الآية أن الجريمة التى يرتكبها إنسان ضد إنسان آخر، تجعل البشر كلهم ضحايا، وكلهم جناة، لأن المصير واحد، والمسئولية مشتركة، والذى لا يشارك فى منع الجريمة يشارك فى ارتكابها. لمزيد من مقالات أحمد عبدالمعطى حجازى