فى تصورنا لتجديد الخطاب الدينى وفى كلامنا عنه نقع فى أخطاء يتعمدها البعض ويسهو عنها آخرون. أما أن هناك من يتعمدون الوقوع فى الخطأ وهم يتحدثون عن تجديد الخطاب الدينى فهؤلاء بكل بساطة هم الذين يريدون للخطاب الدينى أن يظل كما هو، إرثا موقوفا عليهم، وعقبة تحول بيننا وبين الحرية والتقدم، فأمامهم طريق من طريقين: إما أن يرفضوا ذلك رفضا صريحا كما فعلوا طوال القرنين الماضيين حين قاوموا الدعوة لتجديد مناهج الأزهر، ولتحرير المرأة، وحين وقفوا إلى جانب الملك فؤاد ضد زعماء الشعب ودعوا لتنصيبه خليفة، وحين حاربوا حرية التفكير والبحث العلمى وشنوا الحملة تلو الحملة على على عبد الرازق وطه حسين أقول إما أن يسيروا فى هذا الطريق الصريح وإما أن يتظاهروا بقبول التجديد ثم يزيفوا معناه كما يفعلون فى هذه الأيام. لقد ثرنا ثورتين متواليتين تكمل إحداهما الأخري, ثأرنا فى الأولى من الطغيان العسكرى المملوكى وفى الأخرى من الطغيان المتلفع بالإسلام، وخرجنا شبابا وشيوخا، ورجالا ونساء، ومسلمين ومسيحيين كأنما خرجنا من عصر ودخلنا فى عصر جديد لا تصح الحياة فيها بفقه العصور الوسطى ونظمها العثمانية الموروثة وتقاليدها البدوية المجلوبة فلابد من فقه عصرى ولابد من خطاب دينى جديد. نعم، تجديد الخطاب الدينى شرط ضرورى لا تقوم دونه الدولة المدنية ولا تنهض الديمقراطية ولا تتحقق العدالة وهى الشعارات التى ارتفعت فى الثورتين وتبناها الجميع، الشباب، والمثقفون، والأحزاب السياسية، ورئيس الدولة الذى أصبح فى طليعة المنادين بتجديد الخطاب الدينى فمن الصعب أن يعارضه سدنة الماضى المستفيدون من خطابه الدينى المتخلف معارضة صريحة، وإنما يواجهه بعضهم بالتجاهل والصمت كأنهم لم يسمعوا، أو كأن الدعوة إليه ليست من الأهمية بحيث يلتفتون لها. وآخرون يتظاهرون بالقبول فيقولون نعم لتجديد الخطاب الديني، فإن سئلوا عما يفهمونه من تجديد هذا الخطاب غمغموا وفسروا الماء بعد الجهد بالماء! بعضهم لا يفهم من كلمة الخطاب إلا ما نفهمه من كلمة الخطبة، التى يجب أن يراعى فيها القول المأثور «لكل مقام مقال». فالذى يقال فى ظرف يختلف عما يقال فى ظرف آخر. واللغة التى نخاطب بها المتعلم غير اللغة التى نخاطب بها سواه. وهكذا يصبح تجديد الخطاب الدينى هو ما كان يقوم به بعض المتشايخين الهواة الذين وجدوا فى الكلام عن الدين سوقا رائجة ومهنة مربحة يمارسونها وكل عدتهم البذلة الإفرنجية بدلا من الجبة والقفطان، والرأس العارية بدلا من الرأس المعممة، واللغة الدارجة بدلا من الفصحي. وبهذا المظهر العصرى أصبح خطابهم الدينى جديدا وأصبحوا به دعاة وأصبحوا نجوما ينافسون نجوم السينما وتتسابق القنوات الفضائية فى استضافتهم واستخدامهم فيروجون لها ولأنفسهم، وينفعونها وينتفعون! وآخرون قرروا إفراغ الشعار من مضمونه فحصروا التجديد فيما لم يأت به نص. وفى خمسينيات القرن الماضى وجهت هذه الصحيفة «الأهرام» لشيخ الأزهر هذا السؤال: إلى أى حد يمكن أن يتطور الدين تبعا لتطور المجتمع؟ فأجاب بأن الدين أحكام أساسية تبقى ما بقى الزمن. وأحكام فرعية تخضع لما جاء فيها من نصوص. فإن لم يوجد نص جاز الاجتهاد! ووفقا لهذه الإجابة تكون الأحكام الخاصة بالرق، وقتال غير المسلمين، والتمييز بين الرجل والمرأة سارية إلى يوم الدين، ويكون تجديد الخطاب الدينى محصورا فى الاستماع للراديو ودخول السينما ومشاهدة التليفزيون! ولا يختلف كثيرا عن هؤلاء الذين يضيقون مجال التجديد ويحصرونه فيما لم يأت به نص، لا يختلف عنهم الذين يعرفون التجديد بأنه إحياء ما اندرس، أى إعادة الحياة لما تجاوزه الزمن. وهكذا بدلا من خطاب دينى جديد يحررنا مما لا يزال يكبلنا من آثار الماضى الميت أصبح على الخطاب الدينى الجديد أن يعيد الحياة لما مات وانقرض. وهكذا عاد الحجاب بعد أن خرجت المرأة من الحريم، وبعد أن أصبحت نائبة وأصبحت أستاذة وأصبحت قاضية وأصبحت وزيرة، وهكذا يحاول الإخوان والسلفيون ومعهم أردوغان وأبو بكر البغدادى إحياء الخلافة، بل لقد نجح بعضهم فى إحياء ما اندرس من تقاليد الغزو والسبى وتجارة الرقيق فى نيجيريا وسوريا والعراق. ولكى يتمكن هؤلاء وهؤلاء من تزييف المعنى المقصود من تجديد الخطاب الدينى يتعمدون إسقاط كلمة التجديد فى حديثهم عنه ويحلون محلها كلمات تشير إلى اللفظ من بعيد وتجتهد فى الابتعاد عن المعني. وهكذا نراهم الآن يتحدثون عن تصحيح الخطاب وإبعاده عن العنف والتشدد وإعادته إلى التوسط والاعتدال، لا بإعادة تثقيف المشتغلين بالفكر الدينى والنشاط الدينى من رجال الأزهر وطلاب المعاهد الدينية وخطباء المساجد، بل بالتصريحات الصحفية والخطب التى تقررها وزارة الأوقاف على أئمة المساجد التابعة لها وتغيرها حين تتغير السياسة كما حدث فى الماضى وحتى الآن، فالفتوى تتغير حين تتغير السلطة وتنتقل من يمين إلى يسار ومن يسار إلى يمين. ولو راجعنا ما صدر طوال القرنين الماضيين من فتاوى عن تدريس العلوم الحديثة فى الأزهر، وعن الخلافة الإسلامية، وعن ولاية المرأة وحقوقها السياسية، وعن الفوائد المصرفية، وعن حرية التفكير والتعبير، وعن التفاوض مع إسرائيل.. فسوف نواجه بسلسلة من الانقلابات. فى أواخر القرن الأسبق كان الانبابى والبحيرى وسواهما من رجال الأزهر يرفضون تدريس العلوم الحديثة. وفى ستينيات القرن السابق تغيرت الحال. وفى أيام الملك فؤاد كان الشيخ أبو الفضل الجيزاوى ومعه المراغي، وقراعة، والبكري، ومحمد شاكر يعلنون أن الخلافة «رياسة عامة فى الدنيا ونيابة عن صاحب الشريعة فى حماية الدين» ويطالبون بمبايعة الملك فؤاد خليفة للمسلمين. وقد تكررت المحاولة وفشلت كما فشلت سابقتها مع الملك فاروق. ثم تغير الموقف أخيرا فى مواجهة «داعش» فأعلن علماء الدين المجتمعون فى القاهرة أن الخلافة ليست فرضا دينيا وإنما هى نظام سياسى من نظم أخرى يستطيع المسلمون أن يختاروا واحدا منها. وهذا هو ما سبق أن بينه الشيخ على عبد الرازق فى كتابه «الإسلام وأصول الحكم» فحاكمه الأزهر وسحب منه شهادة العالمية وعرضه بهذا للفصل من وظيفته. ومن الطبيعى أن تتغير الفتوى من مرحلة لمرحلة حين تتغير الظروف ويتطور المجتمع ويواجه أسئلة جديدة تحتاج ليس فقط لإجابات جديدة، بل تحتاج لفكر جديد، على ألا يكون هذا مجاراة للسلطة وميلا مع الريح حيث تميل. وإنما ينبغى أن يكون مراجعة شاملة لخطاب الماضي، خاصة حين ننتقل إلى عصر جديد يحتاج لخطاب دينى جديد يبرأ من التحايل والتلفيق ويعترف بحقائق العصر ومبادئه وقيمه الإنسانية ويتأسس عليها. فإذا كنا نريد أن نجدد الخطاب الديني، وإذا كنا ندرك أن تجديد الخطاب الدينى مطلب من مطالب ثورتنا، وأنه شرط جوهرى لأى تحرر وأى تقدم، وأن هناك مؤامرة لتزييفه وتجاهله، فعلينا ألا نكف عن الإلحاح فى طلبه، وأن نبدأ من البداية فنعرف المعنى الحقيقى المقصود من تجديد الخطاب الدينى. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي