إن كانت الكلمة تمثل الفكرة فى العقل، فالموسيقى تمثل المشاعر للنفس والروح. فالألحان والموسيقى ليست رفاهة اجتماعية ولكنها عنصر مهم للتعبير عن المشاعر الداخلية، سواء كانت مشاعر عبادة فتكون موسيقى ترانيم وألحانا روحية، أو مشاعر أخرى للتعبير عن باقى نواحى الحياة. ويقول (أفلاطون): «أن الموسيقى غذاء النفس ومبعث الاتزان والفطن». ومن هنا نجد أنه لا يمكن أن نرى تقدما وحضارة دون موسيقى وألحان، فكما أن الكلمة تخبرنا المعني، فالموسيقى تخبرنا بإيقاع الحياة والمشاعر. والموسيقى المصرية القديمة كانت متغلغلة فى كل الحياة بل كانت لها قيمة روحية وحضارية كبيرة، حتى أن الفراعنة وجدوا ارتباطا بين الموسيقى وإيقاع الكون فكانوا يجدون شبهاً كبيراً بين حركة الأجرام وإيقاعها وبين النغمات الموسيقية التى ينشدونها، حتى أنهم حينما كانوا يعرفون خمسة كواكب فقط هم عطارد والزهرة والمريخ والمشترى وزحل كان السلم الموسيقى فى ذلك الحين خماسياً. وحين استطاعوا أن يعرفوا الشمس والقمر تحول السلم إلى سباعي. بل ارتبطت أيضاً الموسيقى بالمشاعر المقدمة للإله حتى أن «ديمتريوس الفالروني» فى عام 257 ق.م. وهو أحد أمناء مكتبة الإسكندرية يقول عن العبادة المصرية: «إن كهنة مصر كانوا يسبحون آلهتهم من خلال الاحرف السبعة المتحركة التى كانوا يأخذون فى الغناء بها فينتج عنها ألحان عذبة» وهذا ما يسمى الإطناب النغمي. وكان على أى مصرى أن يتعلم الموسيقى وهو فى الثالثة عشرة ويمضى ثلاث سنوات فى تعلم الموسيقي. ويرجع كثير من العلماء تأثر الموسيقى والألحان اليهودية فى بدايتها بتسابيح موسى النبى التى تعلمها من مصر، ويقول فى هذا الفرنسيون فى كتابهم «وصف مصر»: «إن موسى الذى تلقى فى مصر كل علوم المصريين اكتسب الشعر والأغنيات الجميلة منهم، حتى أن موسى النبى وأخته مريم سبحا مع الشعب الخارج من مصر تسبيحة رائعة للإله الواحد». ويقول «فيثاغورس» العالم الجليل الذى عاش فى مصر فى القرن السادس قبل الميلاد مدة 21 عاماً ينهل من علومها وفنونها أن الإغريق تعلموا الفن والموسيقى من المصريين القدماء. لذلك كانت الموسيقى عنصر مهما فى حياة المصريين فكانوا ينشدون فى المعابد، وكانوا ينشدون فى الأعياد، وكانوا ينشدون فى الجلسات الخاصة وهذا يظهر من الصور المرسومة على جدران المعابد. وورث الأقباط هذه الحالة فصارت أيضاً الموسيقى عنصرا مهم فى العبادة المسيحية. ومن المهم جداً أن نعرف أن الموسيقى الفرعونية انتقلت كحالة تسبيح وإنشاد للكنيسة فى عصورها الأولي، ومن هنا نستطيع أن نكشف ونعرف الموسيقى الفرعونية لأن الكنيسة القبطية كنيسة تقليدية تعيش على التسليم من جيل إلى جيل، فالكنيسة القبطية تحوى أهم مصادر تخبرنا عن موسيقانا القديمة، وعلى هذا سنضطر كى نعرف أصول موسيقانا القديمة إلى الدخول والتعرف على مصادر الموسيقى والألحان فى الكنيسة القبطية الأولى وهى ثلاثة مصادر: أولاً: مزامير العهد القديم: والمزامير هى ترانيم وقصائد روحية كتب أغلبها داود النبى وكان ينشدها باللحن والموسيقي، ثم أدخل إلى العبادة اليهودية فى الهيكل هذه الترانيم. ويخبرنا العهد القديم أنه أقام أربعة آلاف مرنم بآلات موسيقية وكانوا يسبحون يومياً فى الهيكل. وتعلمت الكنيسة الأولى التسبيح بالمزامير من السيد المسيح نفسه فقد سبح مع تلاميذه فى البستان قبل القبض عليه يوم خميس العهد. وتعلمت الكنيسة التسبيح الجماعى وهذا الذى حفظ تلك الألحان إذ إن كل من يدخل الكنيسة ليصلى لا يردد ألحانا فردية بل تصلى الكنيسة كلها بألحان موزونة يسلمها جيل إلى جيل منذ القرون الأولى حتى أن القديس مرقس الذى بشر بالمسيحية فى مصر هو الذى وضع القداس الإلهى المسمى باسمه. ثانياً: الموسيقى الفرعونية: وهى المصدر الثانى الحتمى إذ إن المسيحية انتشرت بسرعة شديدة فى القرن الأول بين المصريين الذين اعتادوا التسبيح بنغمات معينة. واحترمت الكنيسة هذه المشاعر الدينية ووضعت نصوصاُ على هذه الألحان تتناسب مع تلك الحالة. ويؤكد هذا الفيلسوف السكندرى اليهودى «فيلون» الذى عاش فى القرن الأول: «أن جماعة المسيحيين الأولين قد أخذوا الحانا مصرية قديمة ووضعوا لها نصوصا مسيحية». ومن ضمن هذه الألحان لحن يسمى «غولغوثا» أى «جلجثة» وهو مكان الصليب ويقال يوم الجمعة العظيمة مأخوذ من لحن كان يرتله المصريون القدماء فى أثناء عملية التحنيط وفى مناسبة الجنازات. ولحن آخر وهو «بيك اثرونوس» أى «عرشك يا الله» وهو لحن نصفه الأول مأخوذ من لحن كان يقال عند وفاة الفرعون والنصف الآخر نغمات مفرحة مأخوذة من لحن كان يقال عند تنصيب الفرعون وجلوسه على العرش. وهذا على سبيل المثال وليس الحصر الذى يؤكد أن الموسيقى القبطية الكنيسية هى الوريث الشرعى للموسيقى الفرعونية. فالفن القبطى من موسيقى وأيقونات هو انعكاس للبيئة المصرية التى نشأت فيها الكنيسة القبطية القديمة. ثالثاً: تأليف الألحان من آباء وقديسين الكنيسة الأوائل: وقد اهتمت مدرسة الإسكندرية التى قد أسسها القديس مرقس بالموسيقى ونتج عنها ألحان صارت من نسيج الطقس الكنسي، منهم القديس إكليمندس السكندرى عام 150م.، والبابا أثناسيوس الذى كتب وألف ألحانا رائعة. هذا بجانب ألحان أخرى دخلت إلى الكنيسة فى القرن الرابع بعد ترتيب الطقوس الكنسية فى هذا الوقت. ويقول الفيلسوف فيلون: «إن المسيحيين فى مصر لا يقضون وقتهم فى تأملات فحسب بل أيضاً يؤلفون الأغانى والترانيم الروحية ويعلمونها للشعب ليصلوا بها». ومن الجدير بالذكر أن الذى بشر بالمسيحية فى إيرلندا سبعة رهبان من مصر وكانوا حريصين أن يحملوا معهم القيثارة المصرية ليعلموهم التسبيح والموسيقي، وإلى الآن هذه القيثارة المصرية تشتهر بها إيرلندا. هذا بجانب انتشار الرهبنة والأديرة فى مصر جعل للتسبيح دورا مهما إذ إن حياة الرهبان قائمة على العبادة والتسبيح. وقد زار مصر فى القرن الرابع القديس يوحنا ذهبى الفم وقد شهد عن أهمية التسبيح فى حياتهم وقال: «إذا أوتيت أن تزور صحراء مصر فسوف ترى هذه الصحراء وقد صارت أفضل من فردوس. حيث يوجد عشرة آلاف خورس من الملائكة فى هيئة بشر» عزيزى القارئ إن الكنيسة القبطية بتاريخها وتراثها، بلغتها وفنها، بأبطالها وبطولاتها هى جزء من نسيج وهوية وتاريخ مصر، وحلقة الوصل بين تاريخ أجدادنا القديم وبيننا حتى أن من أراد أن يتعرف على تراث وحياة الفراعنة يجب أن يتعرف الكنيسة القبطية فهى التى حفظت وحافظت على اللغة والفن والموسيقى بل والهوية المصرية. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس;