لا ينتصف شهر إبريل من كل عام حتى تبدا الاستعدادات فى كل بيت للاحتفال بطقوس تشبه الأعياد، لا نعرف من أين توارثناها وهل لها علاقة بعقيدة قديمة منسية، أم مجرد مناسبات ابتدعها الأجداد وسار على نهجها الأحفاد، دون الانشغال بأصولها! تبدأ الأعياد ب «سبت النور»، وهو عيد قبطي، تم الاحتفال به بعد انبعاث النور من قبر السيد المسيح، لكن لا أحد يعرف السبب الحقيقى بينه وبين قيام النسوة- مسلمات ومسيحيات- فى هذا اليوم، بالاكتحال ورسم عيونهن مثل عيون الظباء، ثم الاستدارة إلى الصبية وإمساكهم جيدًا كالجراء، وتكحيل أعينهم بكحل الحجر الحار، بعد إدخال المرود فى بصلة حارقة، فتنثال دموع الصبية، محملة بسواد الكحل، فتتحول الوجوه إلى وجوه أشباح أليفة باكية. .......................................................... و«أحد السعف» معروف الأصل، فهو ذكرى يوم دخول المسيح القدس، واستقبال أهلها له بأغصان الزيتون وسعف النخيل، فى هذا اليوم يسارع الرجال لقطع السعفات الطرية من النخيل، تلك التى لم يسن الخوص فيها حوافه كالإبر بعد. يعود الرجال من أطراف الزراعات محملين بها، ومن لا يملك ميراثًا من النخل يحصل على الخوص هدية من جيرانه، ليبدأ الاحتفال بتبارى شباب النصارى فى صناعة الصلبان ذات الأشكال والأحجام المختلفة، ولأننا نشاركهم كل شيء، نحتفل ب «الخُوَيصة» على طريقتنا، فى هذا اليوم نصنع الخواتم والأساور وأعشاش الدبابير والطراطير، ونظل نحتفظ بها حتى بعد جفافها وتيبسها، إلى أن تطيرها رياح أمشير قبل حلول العيد الجديد بقليل وقد تشاهد هذه المظاهر فى العديد من الأحياء والقرى المصرية مشاركة من المسلمين للاخوة الاقباط وهذه هى ثمة الشعب المصرى نسيج واحد. عند بزوغ شمس يوم الخميس من الأسبوع نفسه تستعد النسوة لتجهيز العدس، لا لنأكله، بل لنلطّخ به جدران الأحواش الخلفية الملحقة بالبيوت. تصبح جميع الجدران مزينة بكتل العدس المطبوخ، تقول الجدات إنهن جبلن على فعل ذلك كى يسحبن الذباب، الذى تبلغ أسرابه مداها فى هذا اليوم، إلى خارج البيوت، لتعفيهن هذه الحيلة من هش أسراب الذباب عن الجبن «القَريش» الذى قمن بصناعته طوال الشتاء من اللبن الرائب منزوع الدسم، لتخزينه بعد تخليصه من «شرْش» اللبن فى بطون جرار «المِشّ» استعدادًا لموسم الصيف. لم نكن نترك كتل العدس على الجدران، بل بمجرد عودة الأمهات إلى عتمة الغرف، نستدعى باقى الأصدقاء من الكروم المجاورة، أو من الحقول البعيدة، ونبدأ طقسنا الخاص: تلطيخ بعضنا البعض بالكتل شديدة الصفرة، وبعد الانتهاء، نقوم بمباراة اصطياد الذباب أثناء انشغاله بالتهام الوجبة السنوية. فى اليوم التالي، بعد مصيدة الذباب تلك، وقبل ارتفاع الشمس فى صفحة السماء، يكون العجين فى «المواجير» الفخارية جاهزًا، بعد أن اختمر سطحه كبطن الحبلي، تجتمع النسوة فى الرحبة بين البيوت، وتبدأ كل واحدة فى نشب الفطير، بتقسيم العجين إلى كرات مستديرة متساوية أولاً، كى يضمنّ تساوى حجم الفطير كله، ثم تضع كل امرأة الكرة على الطبلية التى أحضرتها من بيتها، وتطبطب عليها بنشابتها الخشبية جيئةً وذهابًا، ثم تعيد تكويرها وترش عليها السمن بعد أن يبلغ فردَها مداه، كى تُورّق ويحمّر وجهها عند وضعها على مصطبة الفرن الحامية. ليس إعداد الفطير هو كل ما يحدث فى هذا اليوم، بل تقوم الأمهات فى الصباح الباكر، بذبح ذكر من البط وتركه «يفرفط» بجناحية فى السقيفة، حتى تمتلئ الجدران بقطرات الدماء الحمراء الدافئة، كعلامة على الرخاء. اختياره يتم من أكثر ذكور البط أو الإوز سمنة، تلك الطيور التى قامت الأمهات بالمواظبة على تسمينها طيلة الشهور السابقة، بطريقة «التَّزْغيط» أى بحشر القمح داخل فم كل طير، وزجه بالأصابع حتى المعدة، ثم تركه ليشرب من «طاجن» المياه الفخارى قبل أن يفطس وتذهب روحه فى الهواء. كنا نسمى هذه الجمعة، بجمعة «الفُرْفيطة». كنتُ وأترابى ننتظر هذه الأعياد بمنتهى الفرح، حتى اختتام أيام البهجة بيوم شم النسيم، والخروج فى نزهات إلى الجنائن أو التنزه بمراكب الصيادين بين ضفتى النهر، لكن يوم الفرح الأعظم هو «أربعاء الغُبَيْراء»، ذلك الذى يسبق خميس العدس بيوم واحد، ما إن تبدأ الأمهات بإيقاظنا فجرا، ونزعنا من الأحلام برش المياه على وجوهنا، حتى نقفز من تحت الأغطية، ونجرى إلى ضفة النهر قبل أن نفيق تمامًا. أجد أترابى سبقننى مع أمهاتهن إلى هناك. نتأهب جميعًا للنزول إلى النيل، باستخدام المدقات الصلبة التى أحدثتها أقدام الرجال صعودًا وهبوطًا، كلما توضأ أحدهم بعد القرفصة موليًا وجهه شطر صفحة النيل الهادئة مغترفًا من مياهه. فى هذا اليوم، يَحْرُم على الرجال مغادرة البيوت إلى ما بعد الضحى بقليل، للتأكد من عودة آخر امرأة إلى بيتها، لكن النسوة يعرفن أن بعض الرجال لا يحترمون هذا العُرف، وقد يكون أحدهم مختبئًا هناك خلف الصفصافة العجوز، أو بجانب شجرة اللبْخ، وربما قاد الفضول بعض من يسكنون صف البيوت الأمامية المطلة على النهر، إلى الصعود على سطح بيته للتلصص على حفلة الاستحمام الجماعية للنسوة، لذا تفضل الشابات التماهى مع مياه النهر بملابسهن، لا يخلعن سوى طرحهن الشيفون الخفيفة، لكن العجائز يفضلن- بعد أن تصل المياه إلى أكتافهن- خلع جميع الملابس، وترك الأجسام التى يبستها برودة الشتاء المنصرم للمياه، تعيد لها بعض النضارة المفقودة. أما نحن الصغار، فكنا قبل أن نطأ المياه بأقدامنا الصغيرة، ننزع الملابس بجرأة ونتركها على الأحجار البيضاء التى تشبه بيض حيوان الرخ فى قصص الجدات الخرافية، ونجرى حافيات لنسبق الجميع، وفى عمق المياه، نبدأ فى دعك أجسامنا بنبات «الغُبْيرة». لا نعرف نحن الصغيرات لماذا هذا النبات بالذات، لكن الأمهات يقلن إن أيوب شُفى من دائه، وإن الصبا عاد إلى زوجته، بعد دعك جسميهما به. لا يهمنا كثيرًا من فعل هذا ولماذا، نكتفى بشعورنا الغامض فى هذا اليوم، كأننا ندخل بهذا الطقس الاحتفالى الخيالى المثير إلى رحم الحياة.