أحد جوانب عظمة الإسلام دعوته إلى تحسين النية، وتصويبها. والنهي عن استخدامها في الخداع، في حين يُدار العالم اليوم بنيات خبيثة، وأشخاص يظهرون خلاف ما يبطنون، ويسرُّون عكس ما يعلنون، ويضمرون ضد ما ينتوون، ويعتبرون ذلك شطارة ومهارة، فينصبون للناس الفِخاخ، بمن فيهم أقرباؤهم، ليكتشف المرء، في لحظة، أنه كان يعيش خُدعة كبرى، بنيات أصحابها الخبيثة. ومهما اعتذر إلينا صاحب الفعل السئ بأن نيته كانت حسنة، لا يجب أن نصدقه.. ذلك أنه "لو أحسن النية لأحسن العمل". وفي التنبيه إلى ذلك، قال تعالى: "وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ". (الأنعام:3). وقال: "وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ". (القصص:69). وقال: "يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ".(الطارق: 9 و10). قال ابن القيم: "أي تُختبر وتظهر وتبدو في ذلك اليوم حتى يظهرَ خيرها من شرها، ومؤديها من مضيعها". وزعم أقوام أنهم يؤمنون بالله، ويشهدون بالرسالة لرسوله، صلى الله عليه وسلم، فكشف الله سريرتهم بأنهم كاذبون، فقال: "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ".(المنافقون:1). وفضح الله فريقاً أظهر الاعتذار والتأسف لرسول الله، وأنه تأخر عنه منشغلاً بحوائجه، وأهله، وشؤونه، وهو كاذب.. إنما تأخر لعدم إيمانه واستسلامه، وعدم قبوله لأمر الله ورسوله. قال تعالى: "يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ۚ قُل لَّا تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ۚ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ".(التوبة:94). حتى إنهم حلفوا كذباً لقبول اعتذارهم: "سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ".(التوبة:95). لذا توعد الله تعالى هؤلاء المنافقين بإظهار ما في قلوبهم. فقال: "يَحْذَرُ الْمُنَفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون".(التوبة:64). وفي سياق آخر قال سبحانه: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ".(محمد 29 و30).(أي: عداوتهم وحسدهم). وحتى في أمور الزواج، وتوثيقه، لا بد من النية السليمة. قال تعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا".(النساء:35). من هنا ردَّ عمر بن الخطاب، من قاموا بمحاولة الإصلاح بين زوجين مختلفين، بعد أن فشلوا في مهمتهم، وطالبهم بإعادة المحاولة، شريطة إخلاص النية؛ يقيناً منه بصدق قوله تعالى: "يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا"، فجعل تحقق الإصلاح مرتبطاً بصدق نية المصلحَين، لذلك أمرهم بتصحيح النية أولاً، ثم إعادة المحاولة مجدداً، وفق علماء. ومع آيات القرآن، عظَّم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أمر النية. "عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ".(رواه البخاري ومسلم). يقول الإمام النووي: "دلّ قوله: "وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"، على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة". والأمر هكذا، قال عمر بن الخطاب: "لا عمل لمن لا نية له". وقال علي بن أبي طالب: "ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه". وقال الشيخ محمد عبده: "كل عمل غير محظور تحسن فيه النية لله تعالى فهو عبادة، فإنّ الله لا يُعامِل إلا بالنية". وفي حكم الشعوب، تقول الحكمة اللاتينية: "العمل الظاهر ينم عن النية المبيتة". ويقول مثل إسباني: "من يقبل إلى الطاحونة فلكي يطحن قمحه". ويقول فولر: "سيئ النية يجد دوما أسبابا سيئة للأعمال الحسنة". وقال علماء ودعاة إن "النيات مآلات". وأضافوا: "صاحب نية السوء، مآله الفضيحة، وهتك الستر". وقيل: "كم من الأعمال الكبيرة أفسدتها النيات الخبيثة، وهدمتها السرائر المظلمة". فالحذر الحذر، فليست الجنة لأصحاب النيات السيئة، بل هي دار النيات الخالصة لله. فأصلحوا نيتكم يصلُحُ لكم، وبكم، العالم. وبهذا ساد المسلمون الأوائل، العالم. [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد;