ضوابط وإجراءات حصول الحكومة الجديدة على موافقة مجلس النواب.. تشكيل لجنة برلمانية خاصة لدراسة البرنامج.. ومراعاة تمثيل المعارضة والمستقلين    سعر الدولار اليوم السبت 22-6-2024...استقرار العملة الأمريكية    أسعار اللحوم الضاني اليوم السبت 22-6-2024 في الأسواق ومحال الجزارة بقنا    النائب حازم الجندى يثمن توجيهات الرئيس السيسى بتشكيل خلية أزمة لمتابعة أوضاع الحجاج المصريين    الفئات الممنوعة من دخول مزاد سيارات جمارك مطار القاهرة    القناة الإسرائيلية ال12: مقتل إسرائيلي في مدينة قلقيلية بالضفة الغربية    الشرطة الأمريكية: مقتل 3 أشخاص في إطلاق نار بولاية أركنساس    النائب أيمن محسب يطالب المجتمع الدولى بخلق أفق سياسى يسمح بإعادة إحياء عملية السلام    يورو 2024، ترتيب المجموعة الرابعة بعد الجولة الثانية ووداع بولندا    محافظ الغربية يتابع جاهزية محيط المدارس لاستقبال امتحانات الثانوية العامة    غرفة عمليات مركزية ومبردات داخل اللجان.. محافظ دمياط تتابع امتحانات الثانوية    7292 طالباً بالثانوية العامة يؤدون امتحان اللغة العربية بأسوان.. فيديو    36 ألف طالب وطالبة ثانوية عامة يؤدون امتحان اللغة العربية بالمنوفية.. فيديو    بدء امتحان اللغة العربية لطلاب الثانوية العامة بشمال سيناء    ينهي حياة أبن شقيقة لخلاف على سور وحجرة بالدقهلية    نهشتها الكلاب.. جثة ثلاثيني متعفنة بجوارها سرنجة دماء تثير الذعر في أكتوبر    إصابة 3 فلسطينيين برصاص قوات الاحتلال فى جنين بالضفة الغربية    ربحانين اللهم لا حسد وهنكرر التجربة قريبًا، تركي آل الشيخ يكشف إيرادات فيلم ولاد رزق    أشرف زكى: شطبنا فنانين شاركوا فى التطبيع مع إسرائيل وهذه ثوابت النقابة    جامعة القاهرة تخصص 2.5 مليون جنيه لتطوير مركز الدراسات الشرقية لرفع كفاءته    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 22-6-2024    كاف يعلن تلقيه عروضا لاستضافة السوبر الأفريقي    عقوبات رادعة.. كيف واجه القانون مثيري الفوضى والفزع بين الناس؟    وكيل الصحة: مستشفيات مطروح حققت أعلى درجات الجاهزية والاستعداد خلال عيد الأضحى    العاصفة الاستوائية ألبرتو تقتل 4 أشخاص على الأقل في المكسيك    لأول مرة| دراسة ل«القومي للبحوث» تبحث في شخصية المجرم.. خاطف الأطفال    نقيب البيطريين يكشف تفاصيل الأوضاع داخل النقابة بعد توليه المقعد (تفاصيل)    تعرف على متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط» اليوم    يورو 2024| التشكيل المتوقع لمنتخب التشيك أمام جورجيا في بطولة الأمم الأوروبية    تامر عاشور يعلق على أزمة شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب مع أسرتها.. ماذا قال؟    لوبان: ماكرون سيضطر إلى الاستقالة من أجل الخروج من الأزمة    نوران جوهر تتأهل إلى نهائى بطولة العظماء الثمانية للاسكواش    الخارجية السودانية تصدر بيانا بشأن الأزمة مع الإمارات.. ماذا حدث؟    انتشال 14 جثة بعد غرق مركب مهاجرين أمام سواحل إيطاليا    كلب مفترس يعقر 12 شخصا بقرية الرئيسية في قنا    البرتغال وتركيا.. مواجهة مشتعلة على التأهل المبكر في يورو 2024    دار الإفتاء تكشف حكم قراءة المرأة القرآن بدون حجاب    بعد تعرضها لوعكة صحية.. نقل لقاء سويدان إلى المستشفى    عمرو دنقل: رحلة فرج فودة الفكرية مصدر إلهامي لانطلاق روايتي "فيلا القاضي" المؤهلة لجائزة طه حسين    مهمة عسكرية ل "الناتو" في أوكرانيا| فيكتور أوربان: لن يستطيع أحد إجبارنا على الدخول في الصراع الأوكراني.. روسيا تعلن استعدادها لإجراء حوار لدعم الاستقرار مع الولايات المتحدة    موعد مباراة الأهلي والزمالك في الدوري المصري والقنوات الناقلة    مفتي الجمهورية: عماد عملية الفتوى الإجابة عن 4 تساؤلات    تُلعب فجر السبت.. القنوات الناقلة لمباراة تشيلي وبيرو في كوبا أمريكا 2024    تركي آل الشيخ يحتفل بتصدر "ولاد رزق 3: القاضية" إيرادات السينما المصرية    منظمة الصحة العالمية تحذر من حقن تنحيف قاتلة    أهمية تناول الماء في موسم الصيف    عاجل - اعرف موعد اجتماع البنك المركزي المصري 2024    موعد سداد فاتورة التليفون الأرضي لشهر يونيو 2024 في مصر    تنسيق الثانوية العامة 2024 محافظة القليوبية المرحلة الثانية المتوقع    دعاء الثانوية العامة مكتوب.. أفضل 10 أدعية مستجابة عند الدخول إلى لجنة الامتحان    انخفاض سعر السبيكة الذهب اليوم واستقرار عيار 21 الآن بمستهل تعاملات السبت 22 يونيو 2024    لأول مرة.. مشاريع تخرج قسم الإذاعة والتليفزيون ب «إعلام القاهرة» تحظى برعاية 5 وزارات    عين على اليورو.. مواجهة سلبية بين هولندا وفرنسا (تحليل بالفيديو)    رئيس مجلس الدولة الجديد 2024.. من هو؟ مصادر قضائية تكشف المرشحين ال3 (خاص)    أخبار × 24 ساعة.. التعليم لطلاب الثانوية: لا تنساقوا خلف صفحات الغش    مركز البابا أثناسيوس الرسولي بالمنيا ينظم اللقاء السنوي الثالث    أفتتاح مسجد العتيق بالقرية الثانية بيوسف الصديق بالفيوم بعد الإحلال والتجديد    مدير الحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب: لقاء الجمعة تربوي وتثقيفي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عقلانية اليقين!
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 03 - 2017

واصلت المرأة العجوز حياتها فى الكهف الذى قام أولادها بتجويفه بالقرب من ينبوع ماء، لكى تعيش فيه بعد رحيلهم إلى المدينة.
اعتصمت المرأة العجوز بقرب نهاية حياتها، فلم يحاصرها حزن غياب ضرورات واجبة الوجود، أو يسعدها استشعار لأفق مستقبلى يمكن أن يولد المستحيل، أو استرجاع لصلة تواصلية تأتيها مفاجأة؟ تراها ترفض الاستسلام لأثقال حس الافتقاد؟ هل الوحدة فى الشيخوخة تعنى الانفصال عن الحياة تجاوزًا لكل توق استمتاعًا بالسكون؟ هل ثمة زمن دون إنسان يعيش هذا الزمان؟ أم أن المرأة العجوز قد أدركت عبر معطيات حياتها الطويلة، معنى الاستغناء عن ممارسة نهج المضاهاة الذى يتضمن المقارنات بين سلوكيات وأحداث مختلفة الزمان؟ هل الزمن بتجاربه قد ألبس المرأة العجوز حلة العيش فى مملكة عقلانية اليقين، بفهمها للواقع، وإيمانها بحتمية التغيير؟ إذ نراها بعد رحيل أولادها إلى المدينة، على يقين أنهم لن يحبوا أو يتمكنوا من الحضور إليها مهما تكن الأسباب؛ فهى ترى فى المدينة العديد من الأشياء التى عليهم القيام بها، غير مبالين بتذكرهم للزمن الذى عايشوه تجاورًا وتقاربًا يخدمون المرأة العجوز دون تقصير. صحيح أن الذاكرة الجماعية تستمد وجودها من حامل يتكون من مجموعة بشر، لكن الصحيح كذلك أن ذاكرة كل فرد من هذه المجموعة، هى وجهة نظر عن الذاكرة الجماعية، يستخدمها كل فرد انتقائيًا وفقًا لتاريخه الشخصي؛ لذا فإن التاريخ المنقضى لا يعطى دروسا إذ لا شيء يتكرر أو يتطابق، أو يتماثل مرة أخرى، لا خلاف أن الذاكرة الجماعية قد تولد بين أفرادها منازعات ومواجهات، لكن حضور الأم يتفرد بأرقى دلالات منابع الحب، والتضحية، والظل المنيع المشحون بممكنات كل الخير.
هاجر الأبناء إلى المدينة، تاركين وراءهم الأم العجوز التى قضت بعد رحيلهم سنوات وحيدة تقيم فى عرينها الذى حفروه لها، لتمارس اشتباكها اليومى والتفصيلى مع الحياة، بداية من عبورها تلك الستارة من الماء الكثيف المتساقط أمام الكهف، بل الغازى لوجودها داخل الكهف، ففرضت على نفسها الانحناء جلوسًا دون حركة فترات طويلة؛ لحماية نفسها من الماء الكثيف، وظل عذاب أسرها من الانحناء مشقة خيارها الأفضل الذى تجنبت به تدفق الماء عليها. صحيح أن الإنسان يعيش دومًا ثنائية الذات/ والعالم المحيط به، بمعنى أنه يلتقى ذاته أو يهجرها؛ إذ يلتقى ذاته عندما تتبدى ملحة شواغله الذاتية الخفية والمعلنة، لكنه يهجر ذاته وشواغله عندما يمارس المشاهدة والمراقبة واستطلاع عالمه المحيط؛ لذا فالصحيح كذلك أن المرأة العجوز عندما نظرت عبر المياه المتساقطة خارج الكهف، ورأت الأرض الجرداء التى لا نبت فيها تبدو لامعة بفعل السماء الرمادية، وأوراق النباتات تطير راحلة أمامها بفعل الرياح، عندئذ التقت ذاتها بتأملها فكرة الرحيل التى تجسدت واقعيًا فى النباتات التى تحكمها حتمية الرحيل عن أرضها، سواء أكانت توحى برحيل أبنائها عنها أم بمعنى رحيلها موتًا، لكن ليس بمعنى ارتقابها الموت؛ إذ تأمل الموت يؤكد مرحلة ما قبل الموت، فدومًا ما كانت تهجر ذاتها، لتمارس حياتها كشاهدة ومراقبة، كأن تراقب البشر الذين اعتادوا المرور بالقرب من الكهف بحثًا عن ينبوع الماء، لكنها لا تتحدث إليهم؛ بل تواصل مراقبتها واستطلاعها لكل ما حولها، ثم تعاود لقاء ذاتها لتمارس حرية وجودها؛ إذ الحرية تعنى لها أشمل وأعظم التحام بصميم الذات، لا شك أن بساطة الأم العجوز لا تعنى سذاجتها، فهى تتحدث فخورة بحرية خياراتها الشخصية، وتعدد مجالاتها ومعطياتها بما يكشف عن مدى إدراكى لهذه الحرية اليقظة؛ لذا كرهت ذلك الرجل العجوز الذى اعتاد الجلوس على صخرة قريبة من الكهف، لعدم طرحه أى إشارة تعبر عن إدراكه وجودها، وتبدى لها أن دافعه أمر غير عادل، ويمارسه بطريقة غير مهذبة، ولأنها كانت تدرك مسئوليتها تجاه نفسها وتجاه الآخرين، فقد تدبرت العديد من الأفكار لمضايقته؛ إذا حاول التجاوز بالاقتراب أكثر من الكهف، وكان عليها أيضًا أن تواجه العقارب التى تصطف على جدران كهفها وسقفه كالغزاة، فكانت تسقطها بالأسمال البالية، وتسحقها بكعب قدمها العارية القوية كلما تجدد غزوها لكهفها. هل رحيل أبنائها حرمها المصير المشترك؟
فى يوم قاتم تبدى فجأة للأم العجوز أحد أبنائها، الذى مات مقتولاً منذ زمن، يقف عند مدخل الكهف، وفى ظل هذا الموقف الملتبس الذى يعد ترائيًا منفصمًا عن الواقع، راح الابن يحاور أمه ويطالبها بالرحيل معه، فرفضت، فأعلمها بحتمية الذهاب معه، والتقط عصاها وناولها إياها مؤكدًا ضرورة رحيلها، فطلبت إليه الانتظار إلى الغد لضرورة نومها، وعادت لترقد على أسمالها، وجلس الابن ينتظرها خارج الكهف. ترى ماذا يعنى هذا التداخل بين ثنائية عالم ظاهر وآخر خفي، أى عالم الأحياء وعالم الموتى؟ ترى هل هذه المفارقة رؤية استباقية ذاتية للأم العجوز، كى تتخطى عالم الظاهر إلى عالم الموتى، لتطرح يقيناتها قبل الرحيل؟ استغرقت الأم فى نوم عميق حلمت خلاله أنها بمدينة واسعة، غاصة ببشر فى ملابس جديدة، فراحت تطرح على بعضهم سؤالاً مفاده إن كانوا هم أبناءها، لكنهم لم يكن فى استطاعتهم الإجابة. وفى الليل وجدت بيتًا بداخله بعض نساء، نهضن عندما دخلت، وأخبرنها بأن ثمة غرفة خاصة بها، لكنها عزفت عن رؤيتها، فدفعنها إلى داخلها وأغلقن الباب، فإذ بها فجأة تجد نفسها قد أصبحت طفلة صغيرة تبكي، وشد ما ارتفعت أجراس الكنيسة فتبدت إنذارًا؛ إذ عبر سقف الحجرة زحف عقرب تجاهها، فتوقفت عن البكاء لتراقبه، وعجزت عن أن تجد ما تزيحه به، فحاولت بيدها، فأمسك العقرب أصبعها وظل ممسكًا بإحكام، اعتقدت الطفلة أنه لن يلدغها، وغمرها إحساس بالسعادة، فرفعت أصبعها إلى شفتيها لتقبل العقرب، فتوقفت الأجراس عن الرنين، وإذ بالعقرب قد تحرك إلى فمها، وأحست الطفلة بقشرته الصلبة وأرجله خلال شفتيها وعبر لسانها، زاحفًا إلى أسفل حلقها واستقر هناك. استيقظت الأم وصرخت مدهوشة، وطلبت من ابنها الرحيل. ترى أليست دلالة الحلم أن البراءة وغياب إعمال العقل هما رهان انتصار الشر؟ فى طريقها للرحيل لاحظت الرجل العجوز الجالس على الصخرة، محدقًا فى وجهها، مودعًا إياها بصوت واهن «مع السلامة»، سألها ابنها عن الرجل، فأجابته أنها لا تعرفه. نظر إليها ابنها مكفهرًا قائلاً: أنت كاذبة. ولأنها يقينًا ليست كاذبة، ولأنه إرغامًا يرى ملء الحق له أن يحكم دون غطاء الحقيقة؛ لذا لم تعقب، وواصلت الرحيل.
إن الكاتب الأمريكى (بول بولز 1910 – 1999)، فى قصته «العقرب» يطرح شخصية الأم نموذجًا، من خلاله يؤكد أن حيازة التقنيات المادية ليست دليلاً على الرقى الإنساني، والذى لا يصح أن يقرن إلا بذاته، أى أن يقرن الرقى بيقين عقلانية السلوك، وبالوعى المتجدد الحضور، والإيمان بحتمية التغيير حيث فى غيابهم أيضًا الأمان يغيب.
لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.