إذا كان هناك رجل تحلو الحياة معه, فهو وحده بهلول الذي تبايعه زوجا مدي حياتها هكذا تصورت عائشة حيث بدونه لن تطل السعادة عليها, بل تسافر عنها كل لحظات الرضا, ويرتبك زمانها, لذا استسلمت له بكل كيانها. صحيح أن حبهما استمر فترة طويلة. لكن الصحيح أيضا أن بهلول قد تعرف إلي امرأة أصغر سنا من عائشة وفضل النفي الطوعي عن بلدته, غارقا في هواه, حاملا كل ما استطاع, حتي الحلي التي كانت تخص عائشة. وفي مواجهة ما فعله بهلول لم تستطع عائشة أن تستقر في مكان, إذ انفلتت علاقتها بقواها الداخلية, فانحدرت إلي هوة مظلمة, وهامت علي وجهها دون انقطاع, يلاحقها راهنها المؤكد لخسارتها, نتيجة خداع بهلول علي مستوي القول والسلوك, لم تفهم عائشة تفسيرا لما حدث, أو تجد أسبابا ملائمة له, ويبدو أن هذا الاستعصاء علي الفهم قد ضاعف فرص تصادم عائشة مع حقيقة واقعها من دون بهلول إذ غاب عنها أي تصور لحياتها بعد هجره لها وذلك لاشك نتيجة استمرار سيطرة تصورها السابق لحياتها معه, رغم حقيقة هجرانه, واكتشافها زيفه ثم اصرارها علي الانحباس في سياقه, وهو ما يعد تجليا لعدم اقتدارها علي مقاومة شعورها بالضياع والعجز, وقد يكون السبب أن إحساسها بالنقصان فجأة قد ضاعف من إحباطها وقنوطها, فتجمعت مقاومتها علي أن تحرر نفسها من الارتباط بمشروع فاشل, ومواصلتها اشتقاق إمكان آخر. كان بالبلدة نبع ماء ذو قدرة عجيبة علي ان يحقق كل أمنية لذلك الشخص الذي يرتوي منه. وفي أثناء ترحالها ليلا, صادفت عائشة ذلك النبع, وارتوت من مائه, وكان يغمرها صهيل هزيمتها, وتتمدد داخلها رغبة الانتقام, إذ سكنتها فكرة وحيدة مسيطرة, تحددت في أمنية, مفادها أن تقوم المرأة التي هرب معها بهلول بفقء عينيه. صحيح أن الغضب يحضر في الحب, وصحيح أيضا أن الغضب يربك عواطف الإنسان كافة, ومع ذلك فهو يسمح لتجاذبات المشاعر أن تنجز التصالح في الحب, لكن ليس صحيحا أن تحضر الكراهية في الحب, إذ إنها تنفيه لأنها تحيله إلي نقيضه تري هل حسمت عائشة مشاعرها تجاه بهلول وغيرت خارطة عواطفها التي تجلت في اعلان انتقامها, بوصفه تجسيدا للكراهية التي جزفت مشاعرها من هول الزيف الذي عاشته, ووجع الهجر الصعب؟ في اليوم التالي, علمت عائشة أن المرأة التي هرب معها بهلول قد فقأت عينيه, ونهبته, وهربت إلي مدينة أخري راحت عائشة تجول بحثا عن بهلول. تري هل ثمة نقطة ضوء في إمكانية مراجعة الكراهية, استهدافا إلي استعادة الحب؟ لقد عثرت عائشة علي بهلول واعترفت له بأنها السبب في فقء عينيه انتقاما منه, حتي لا يري أبدا بعد ذلك امرأة أخري, واقتادته معها, ووافق صاغرا بعجزه عن أي فعل. ذهبت عائشة به إلي ذلك النبع العجيب, وطلبت إلي بهلول أن يشرب منه, ويعلن بصوت جهوري حتي تسمعه يتوسل متمنيا من النبع أن يحقق له دوام حبه الشديد لها مدي العمر. إن غاية رهان انتقامها كان أن تراه عاجزا ضائعا مثلما فعل بها, لتغالب إحساس نقصان وجودها الذي تشعر به, فإذا بجموع انتقامها يستبقي عماءه ليستحوذ عليه ويمتلكه باسترقاق مشاعره ليصبح أسيرا لها مدي العمر. تري هل مغالبة نقصان الوجود تتحقق بالكراهية أو بالحب؟ إن بهلول من واقع عجزه انطلقت صيحته المباغتة بمغايرتها لما طلبته منه عائشة إذ صاح متمنيا أن يعود اليه بصره فقط علي الفور, دفعته المرأة, وسبته ولعنته. ظل بهلول واقفا ينتظر لحظة الشفاء من عماه, وراحت عائشة تتفحصه كمدا, وبكل الضيق, لكن الأمنية تبددت, إذ خذله النبع, وصار الأمر يحتاج إلي تفسير, وفجأة تجلي ماثلا أمامهما شخص مجهول في رداء المسافر, حضوره كالومضة الخاطفة, وسمته يوحي بتساميه, وكأنه يتخفي مجازا تحت ردائه, ومكلف بابلاغ رسالة حيث وجه حديثه إلي بهلول شارحا, بأنه لو كان قد تمني سلفا ألا يفقد بصره أبدا, وذلك قبل أن تتمني المرأة له أن يفقد بصره, لحقق النبع له أمنيته. سألته عائشة متلهفة, متوجسة, متشككة عن مدي معرفته بقدرة النبع, فأجابها بيقين معرفته بقدرته, ثم اقترب من النبع وارتوي منه, سألته عما تمناه, فأخبرها أنه لم يتمن شيئا, ويبدو أنها لم تلحظ تساميه, لذا اصابتها الدهشة التي تجلت في تكرارها للتساؤلات, فكانت خاتمة إجاباته أنه عندما شرب قد ارتوي, وكأن إجابته بلاغ أنه خارج دائرة العوز والاحتياج وفجأة اختفي. حكت عائشة لأبيها المريض العجوز, أنها اكتشفت نبعا سريا يحقق الأمنيات وطلبت أن يرافقها هو وزوجها اليه. عند النبع وقفوا ثلاثتهم, فإذا بالشخص المجهول أمامهم, لحظتها استنفرت طلعته مشاعر عائشة فمع أنها تحب زوجها فإنها أدركت إعجابها بذلك الشخص المجهول الذي شكل لها استيهاما من التجاذب والنداء, لكنها غالبت ذلك الشعور بالإخفاء, وبموجب مقتضيات الحياد, سارعت عائشة تفسر له سبب حضورهم, تقدم العجوز إلي النبع, وشرب منه, وتمني استعادة عافيته, فتحققت أمنيته, ثم طلب بهلول أن يرتبط بعائشة بحب شديد. ثم انصرف الجميع. أفضي العجوز بسر النبع إلي عباس ابن اخيه, الذي يعاني استحالة عاطفية, بسبب غرامه من طرف واحد بحسناء لا تكترث به. ذهب الفتي إلي النبع, ومارس الطقس الموصوف, وفي غضون ثلاثة أيام تحققت أمنيته. بعد الزواج باح الفتي لزوجته بقدرة النبع العجيب, فطلبت الذهاب اليه وهناك دلها الزوج علي الخطوات, وقفت الزوجة وحيدة, وتمنت أن تموت حماتها التي تعاملها بالسوء, وذلك حتي تمتلك المنزل وحدها, ثم ادعت لزوجها أنها تمنت دوام سعادتهما, وعندما عادا إلي دارهما, كانت أم الزوج قد فاجأها الموت. عرف جميع سكان البلدة سر النبع ونتيجة معطيات الفرص التي منحها النبع أهلها تقدمت البلدة سريعا في تجارتها وقدراتها, فتحسنت شروط حياة أهلها الذين حافظوا علي نبعهم, وانخرطوا في علاقات مفتوحة علي التلاحم, والتشارك, والمساندة والاخلاص في الحب لكن الأمور تبدلت بعد هذه الموجة من الخير والبهجة إذ أصبح الحب المفرط من جانب بهلول عبئا علي عائشة فذهبت إلي النبع تطلب خلاصا منه, ورجلا آخر يعتني بها, في حين يستغيث بهلول الأعمي, وعبثا ينادي عائشة, كما تسلطت الغيرة العارمة علي عباس تجاه زوجته الحسناء وايضا تملك الندم والقنوط والد عائشة لأنه لم يكتشف النبع في شبابه, هذه الشروخ التي تبدت في نماذج الشخصيات الأربع, وأن اختلف تشخيصها, فإنها تجسد سلبيتها وعجزها وعدم اقتدارها علي إدارة حياتها. أصبحت هذه الشروخ امتدادا لتصدع أكبر اجتاح أهل البلدة, إذ كل من كان مفتونا بأمنية, وحققها النبع له, عاود يطالبه بتغييرها, دون ممارسة لمسئوليته عن ذاته كفرد بل اتكالا كاملا علي النبع, لذا اندفع كل من يريدون تحقيق أمنياتهم, أو تغييرها, وايضا كثير ممن تعجلوا الذهاب ثانية إلي النبع دون أن ينتظروا تحقيق أمانيهم, فاستشري التدافع بين أهل البلدة بجموح منفلت نحو النبع في جماعات كبيرة, بوحشية موغلة في شراستها, فتعثر منهم الكثير, ووقعوا علي الأرض, وأصبحوا عرضة للوطء والنسيان, وساد الذعر, وأخذ يضرب بعضهم بعضا, ويتشاجرون فيما بينهم, وسقط الضحايا من القتلي بجانب النبع, ولم يعودوا يعرفون ماذا يريدون, وإذ بداعية البلدة يوجه خطابه اليهم يحثهم علي العودة إلي النظام, ويعيب عليهم تصرفاتهم. تري لماذا لم يتبين الداعية الخطاب المضاد الذي يستهدف نقض وتقويض تكاسلهم, واتكالهم, وهجرهم بذل الجهد, ويحثهم علي ممارسة العمل لإعمار الأرض؟ وفجأة ظهر الشخص المجهول يقف عند النبع, يشرب منه, ولم يتمن شيئا, إذ أعلن أنه فقط قد ارتوي, وسار في صمت إلي أن اختفي عندئذ صاح أولئك الأشخاص الأقرب إلي النبع يعلنون: لقد جف النبع تماما. إن كاتب البوسنة نجاد إبريشيموفيتش في حكاية النبع التي صاغها وفقا لخصائص أحداث الحكايات الشعبية, بمعقولها ولا معقولها. ومغايرتها للحقيقة والممكن, وايضا بدلالاتها, وتأويلاتها, لم يكن يستهدف بذلك التسلية, بل إنه لم يبرح شرطه بوصفه كاتبا يسعي إلي تخليص مجتمعه من عطالته, وسلبيته المطلقة, وخلخلة تسيد ثقافة التكاسل والاتكال علي النبع الذي جمع طاقاته علي العمل فافتقد اقتداره علي إدارة وجوده المجدي..ولأن الكاتب يدرك أن الثقافة مجموعة من سلوكيات مرئية عينية, يأتلف عليها المجتمع بالإقرار الصامت, وأن الأفراد هم ناقلوها, إذ إنها تعيش في داخلهم, لذا فإن الكاتب يؤكد من خلال بنائه للشخصيات, فكرة أن الخطر علي أهل البلدة يأتيها من داخلها ولأن الكاتب أيضا يدرك ان الثقافة متغير يتفاعل مع بقية المتغيرات في المجتمع, لذا كانت نهاية حكايته جفاف النبع, بوصفه منعطفا يشكل متغيرا علي مستوي الواقع, ليطرح السؤال العام للحكاية: ماذا سيفعل أهل البلدة بعد جفاف النبع؟ والاجابة تتضح عندما نفكك رسالة الرجل المجهول السابقة إلي بهلول الأعمي الذي لم يدرك أن العين كناية عن أصالة القدرة علي الرؤية بالاستباق والاستبصار, من قبل أن تبصر أشياء محددة, وذلك باستحضارها لتصورات مستقبل السلوك والأحداث, بممارسة الاستبانة العقلية التي تتأتي بفعالية ضروب وعي الإنسان, باستيعاب كل ما في طور المجيء, واستقراء الخيارات في ضوء اليقظة والانتباه لاشك أن تلك الاجابة تعني أنه لكي يبرأ أهل البلدة من عجزهم, وكسلهم, واتكالهم علي مصدر وحيد يولد العجز والقصور, لابد لهم من بذل الجهد لاكتساب ثقافة العمل كي لا توصد أمامهم أبواب المستجدات والمتغيرات, إذ ثقافة العمل تفتح الآفاق أمام تجدد أطواره, وتعدد مجالاته, وتغير خريطة قواه وممارساته, وذلك ما يتيح إمكانية تجاوز المسبقات, وشحذ طاقات الاستثمار المجدي لبنية الحاضر, إثراء للأهداف والمقاصد, وكشفا لوعي الناس بأوضاعهم, وفعالية وجودهم انفتاحا علي مساحات التواصل بمبادرات العمل المنتج والجهد الذي يعدل الواقع, ويصوغ المصير. إن سياسة أي مجتمع ناهض مسكونة دوما بالمصير, والعلاقة بين العقل والإرادة والمعرفة والفعل, هي التي تستحضر المصير الفارق للمجتمع, وهي أيضا التي تضبط الوعي بذلك المصير الفارق الذي رهانه الأفعال القصدية لتحقيقه, لذا فإن ما طرحه الرئيس مبارك لإحدي دعائم هذا المصير في خطابه أمام مجلسي الشعب والشوري من ضرورة بذل الجهود المتواصلة لنشر وتعزيز ثقافة العمل بوجه عام, والعمل الحر بوجه خاص, وتشجيع روح المبادرة الفردية, يعني مواجهة الانحباس في المسبقات, وذلك ما يتطلب تضافرا في المهام بين مؤسسات الشأن العام في السياسات, والخطط, والأدوار, والأساليب والاجراءات صحيح أن الزمن الذي تركناه نعده ماضيا, لكن الصحيح أننا ونحن نعيش الحاضر, يظل الماضي, داخلنا يؤثر فينا, ما لم تتجدد ثقافتنا, وتجاوزنا المسبقات التي هزمتها المعارف والعلوم. ان تجدد المجتمع ثقافيا هو الغطاء الفكري المباشر الذي يوسع إطار المنظور للأمور في مختلف النشاطات ويفتح الآفاق لاستيعاب المتغيرات والمستجدات, فتتولد المبادرات, وتتبدل الطموحات, ويعيش المجتمع محروسا بالاقتدار, محميا من وهج الأفكار المغلوطة, واستيهامات الأوهام, وكل أصناف السلب المقنع بالهالات, وتلك ركائز خط الدفاع الأخير.