لا تكفى بضع كلمات للحديث عن حياة أستاذنا الفاضل السيد يسين فقد كانت حياته حافلة بالعطاء العلمى والثقافى وكانت ثرية وغنية ومتنوعة، كما أنها تحفل بعلامات مضيئة فى الطريق الذى شقه بنفسه للآخرين معه ومن بعده، من حقوق جامعة الإسكندرية إلى المركز القومى للبحوث إلى مركز الدراسات بالأهرام ثم باريس وبعدها تفرغ بالكامل لتأسيس المركز وإعادة بنائه وفق أسس وتقاليد علمية ومنهجية راسخة. رحل عن عالمنا «المعلم الأول» وكنت أردد دائما على مسامعه عندما تجمعنا المصادفة أو الضرورة أنه بالنسبة لى ولآخرين من جيلى، والأجيال التى أعقبته فى مكانة المعلم الأول، وسيظل كذلك بالفعل، توفرت فيه شروط الريادة ومهمة المعلم الأول، رسالة وهدف واضحان لا لبس فيهما ثم وسائل وأدوات، فالرسالة كانت وستبقى نشر العقلانية والتنوير والروح العلمية فى معالجة وتناول الظواهر الاجتماعية فى جدليتها وتشابكاتها وتداخلاتها؛ أى النظر إلى هذه الظواهر ليس باعتبارها معطيات أبدية جامدة، ولكنها معطيات متغيرة وتخضع لقانون التغير، كذلك فإن الروح المنهجية والعلمية التى حرص على ترسيخها كانت تقتضى أن ننظر إلى الظواهر الإنسانية والاجتماعية كما هى فى الواقع، وأن البحث فى جذورها كفيل بكشف أسرارها وفك شفرتها ومفتاح التأثير فيها. أما الهدف فقد كان خلق أجيال من الباحثين القادرين على استيعاب رسالته ومنهجيتها، فى الحاضر والمستقبل؛ أولئك الباحثين الذين اكتشفهم فى مجرى حياته ومن خلال حضوره فى الدوائر الثقافية والعلمية المختلفة، كان يتوسم فيهم القدرة على حمل هذه الرسالة وأنهم يمتلكون المؤهلات والقدرات التى تفى بهذا الغرض، كان منهجه فى ذلك الخبرة العريضة التى تحصل عليها والحدس الذى ينجم عنها، ولم يخب ظنه مطلقا فيمن اختارهم وجندهم لأداء هذه الرسالة وتلك المهمة الكبيرة. أما الوسائل فقد كان يمتلكها، فهى المعرفة والمنهج والروح العلمية البعيدة عن الانحياز الإيديولوجى والاستقطابات السياسية، وكذلك التدريب والتمرين والحوار والنقد المؤسس وتقليب الأفكار من جميع زواياها، وإخضاعها للتحليل واختبار مصداقيتها ومقبوليتها وارتباطها بالواقع. كان يدرك تمام الإدراك حدود البحث والمعرفة فى العلوم الاجتماعية، ويعى جيداً أن ثمة معامل أيديولوجى فى المعرفة الاجتماعية، وأن ثمة غواية الانحياز السياسى والإيديولوجى فى البحث السياسى والاجتماعى، ولكنه كان حريصا على أن تكون فترة التكوين البحثى والمنهجى للباحث خالية من هذه الانحيازات؛ لأنها تعوق نظرته للقضايا المبحوثة وتخل بأسس وقواعد هذا التكوين. ومع ذلك فإن الأستاذ الجليل ورغم تفرغه للبحث والنقد والتحليل، لم يكن مقطوع الصلة بالسياسة، وفى سيرته الذاتية ما يؤكد ذلك، ولكنه فى مجرى رحلته الطويلة مع البحث والمعرفة والحياة استوعب جوهر التيارات السياسية والثقافية والفكرية الفاعلة فى الحياة السياسية المصرية، واختار عن اقتناع وروية أن يستلهم القيم الأساسية والجوهرية فى هذه التيارات، فمن اليسار اختار قيمة العدل والمساواة والعدالة الاجتماعية، وقد ظهر ذلك جليا فى اختياراته وتفضيلاته للباحثين، إذ حرص على اختيار باحثين ذوى رؤى وأصول يسارية، ومن التيارات القومية انحاز لقيمة العروبة والوحدة والشخصية القومية العربية، ولكن إيمانه بهذه القيم لم يتخذ شكلا أيديولوجيا متعصبا ومغلقا يحول بينه وبين رؤية الأجزاء المختلفة من الصورة، واختار من الباحثين من يؤمنون بهذه القيم. ومن التيار الليبرالى استلهم فكرة الحرية والتعددية بالذات فى مجال البحث العلمى والفكرى، وكان يرى أن الحرية هى ضمانة الباحث والذات الباحثة للوصول إلى أبواب الحقيقة ےالاجتماعية وإدراك طبيعتها النسبية. تمكن أستاذنا الفاضل السيد يسين من إدخال مهنة البحث، وهى مهنة لم تكن معروفة من قبل على نطاق واسع إذا ما استثنينا الدوائر الأكاديمية والجامعية، أدخلها جدول أعمال المنظمات والمؤسسات الصحفية وبعض أجهزة الدولة، وانتشرت هذه المهنة والمراكز البحثية التى تنتظمها فى ربوع الوطن على المستوى المدنى غير الحكومى والمستوى الحكومى والرسمى والصحفى، لقد تمكن من خلق كينونة للباحث فى القضايا السياسية والاجتماعية الجاربة، وقدمهم للرأى العام الذى لم يكن يأتلف بسهولة مع مهنة الباحثين الذين يكتبون بطريقة مختلفة وقد تكون صعبة ولكنها ضرورية لتطور الحياة العقلية والفكرية، حدد بدقة واضحة مراحل تكوين وتشكيل الباحث، الإعداد والتكوين من خلال الحوار والتفاعل والنقد، مرحلة التكليف بالإنجاز تحت الإشراف العلمى بما يتضمنه ذلك من إعداد خطة البحث ومناقشتها مع المشرف، ثم بعد ذلك يتفرغ لإنجاز بحثه ووضع خطته موضع التنفيذ، حتى معدل إنتاج الباحث لم يغب عن ذهن ذلك المعلم الأول، وهو بمعدل بحث كبير فى هيئة كتاب صغير فى العام صالح للنشر، بعد إجازاته، وهكذا تكونت أجيال من الباحثين من مختلف الأجيال والتيارات الفكرية يدين جميعهم بالفضل للمعلم الراحل. سيبقى المعلم الأول حاضرا رغم غيابه، فى عقولنا وأفكارنا وأذهاننا، وستظل تعليماته وتوجيهاته حية على الدوام فى وعى تلاميذه ومحبيه ومريديه، فليرحمك الله رحمة واسعة يا أستاذنا الجليل وجزاك الله عنا خير الجزاء، ويلهم أهلك وأحفادك وتلاميذك ومحبيك الصبر والسلوان. لمزيد من مقالات د.عبد العليم محمد