هناك جريمة دستورية ووطنية يتم ارتكابها يوميا على مدى سنوات وعقود فى مصر على مرأى ومسمع منا جميعا، دون أدنى حرج أو إحساس بالخجل من ارتكابها، حتى ترسخت فى وجداننا كظاهرة عادية لا تثريب عليها، فرغم أن اللغة العربية هى لغة كتابنا المقدس، وبرغم أن الدستور ينص على أنها اللغة الرسمية لمصر، وأنها تمثل الوعاء الحضارى لثقافتنا، فإن الناس على وجه العموم، وفى القلب منهم المسئولون فى الدولة أصبحوا للأسف أسرى عقدة الخواجة، وباتوا يشعرون بالدونية تجاه لغتهم، ويخجلون من استخدامها فى أنشطتهم المختلفة. إن قلب المرء يحترق ألما وحنقا يوميا، وهو يشاهد فى جميع الطرق والمحاور المرورية الإعلانات المكتوبة باللغة الإنجليزية فى تحد صارخ ومشين وفاجر لكرامتنا الوطنية ودستور بلادنا. فمعظم أسماء الشركات والقرى السياحية والمنتجعات والمدارس والجامعات والمحال التجارية والقنوات التليفزيونية، وكثير من المنشآت والأنشطة فى مصر هجرت لغة الوطن وتدثرت باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وكأنها بذلك عن وهم مريض تعلى قدرها، وتعطى لنفسها مكانة أعلى وأغلى قيمة، فى حين أنها فى الواقع تسئ إلى نفسها، تماما مثل الشخص الذى يستعرّ ويخجل من أصله العائلي، ويسبغ على نفسه وحياته أنماطا وعادات غريبة عن تقاليد بيئته الاجتماعية، واهما أنه بذلك يرتقى فى سلم الحياة الاجتماعية، بينما فى الحقيقة يفقد احترامه بين الناس!. إن المرء لتملؤه الدهشة المقرونة بالغضب من استسلام الدولة لهذا الغزو اللغوى ومن ثم الثقافى لبلد الأزهر الشريف فى اجتراء لا يليق على لغتنا العربية... وعلينا إدراك أن نهضة أى دولة تكون مقرونة بشكل أساسى بمدى اعتزاز وتمسك شعبها وحكومتها بثقافتها وتراثها الحضاري، وهو ما نراه بجلاء فى كل الدول المتقدمة، وتبقى اللغة العربية أداة تفكير وتعبير وجدانى للمصريين لحفظ الثقافة والحضارة العربية وضمان الترقى الأممي، ولم يعد خافيا أن هذا الشعور السلبى والمهين بالدونية تجاه لغتنا القومية هو أحد تجليات وتداعيات تراجعنا الحضارى المؤسف خلال العقود الماضية، وقد غلب علينا (كشعب وحكومات مختلفة) أن التعامل باللغات الأجنبية، وإطلاق مسمياتها على منشآتنا وانشطتنا المختلفة، يرفع قدرنا ومكانتنا أمام العالم، فى حين أن الحقيقة هى أن هجر أى مجتمع لغته الأم، وتعاليه على ثقافته يحط من شأنه بين الأمم، فهل يستمر تراخينا المشين بتراجع خط لغتنا العريقة فى حياتنا، حتى يأتى يوم لا قدر الله نزويها فى غياهب الظلمات، كما حدث للغة سقراط وارسطو وأفلاطون، فتنزوى تبعا لذلك قدرة الأجيال المقبلة على قراءة وفهم كتاب الأمة المقدس!. أذكر أنه فى احتفال مجمع اللغة العربية بالقاهرة باليوم العالمى للغة العربية دعا رئيس المجمع فى كلمته إلى ضرورة إصدار قانون لحماية اللغة، وأشار إلى صدور قوانين مرتبطة باستخدامها فى سنوات مضت، منها القانون رقم 115 الصادر عام 1958 الذى أصدره جمال عبد الناصر، وأشار إلى مادته الأولى التى توجب كتابة اللافتات وأسماء المنشآت باللغة العربية، وإذا كانت هناك ضرورة لكتابة بلغة أجنبية وجب كتابتها بحروف أصغر أسفل الاسم العربي. إن المجتمع الذى لا يثق فى أصالته وتراثه الحضارى وتاريخه العريق الممتد عبر الزمن يفقد احترامه، ويعجز عن تحقيق نهضة إنسانية حقيقية معاصرة!. محمد سعيد عز