تواجه الصحافة المصرية محنة صعبة، بعض جوانبها معروفة ومطروحة للنقاش، وبعضها كامنة ومسكوت عنها، مثل قنابل موقوتة يتم تجنبها خشية انفجارها في وجه من يقترب منها أو يحاول تفكيكها. الجوانب العامة للمحنة هي استفحال مرض ضيق شرايين الحريات، وضراوة المنافسة التي تتعرض لها الصحافة الورقية من أشكال الصحافة الأكثر حداثة، وهي القنوات الفضائية والصحافة الألكترونية، إلي جانب الفضاء المفتوح الذي كسر الحدود الوطنية للصحافة وأشعل منافسة قد لا تكون متكافئة مع إعلام إقليمي ودولي، بينما يجري مقاربة الأزمة من زاوية ضيقة عندما يتم اعتبار أزمة الصحافة الورقية كارثة تهدد مهنة الصحافة، لأن هذه المقاربة تخلط بين مهنة الصحافة وأدوات الصحافة، فالمهنة سوف تبقي، بل تنتعش، بدليل تضاعف أعداد الصحف والصحفيين، لكن الأدوات والشكل في تجدد وتطور، وأحيانا يسير الجديد إلي جانب القديم، فكثير من الصحف الورقية قادرة علي البقاء، بل إن بعضها ينتعش، وأخري تتعرض لأزمات، في وقت احتلت فيه الصحف الألكترونية مساحة متزايدة، مرشحة للتقدم، وهذه الأزمة بحاجة للنظر إلي الصحافة بشكل واسع، وأن تبادر المؤسسات الصحفية بإطلاق قنوات فضائية وصحف إلكترونية بإمكانات أوسع وأكثر تطورا، يمكن أن يكون لها شبكة مراسلين في كل مدينة وقرية مصرية، إلي جانب تغطية الأحداث العامة والدولية، وهكذا يمكن مواكبة التطور في أدوات المهنة، وهو ما يتطلب رؤية مختلفة داخل المؤسسات الصحفية وداخل نقابة الصحفيين. من الغريب أن نقابة الصحفيين لا تعترف بالصحافة الإلكترونية، ولا تقبل العضوية منها، وكذلك لا تقبل من يقوم بالعمل الصحفي في القنوات الفضائية، مع أن مهنة الصحافة المرئية تتطور بسرعة، وتحظي بالمشاهدة الواسعة، وفيها صحفيون لامعون ومراسلون يقدمون الحدث بالصوت والصورة من مكانه علي الهواء مباشرة، فكيف يتم اعتبار هؤلاء غير صحفيين؟ إنهم ينظرون إلي الأداة وليس للمهنة، ولا يرون التطور الذي جري في القنوات الفضائية، وأنها أصبحت سباقة في العمل الصحفي. يجب الاعتراف بأن هناك جمودا في الرؤية، بل قصور يؤدي إلي تشوهات كبيرة تعانيها المؤسسات الصحفية ونقابة الصحفيين، يمكن إيجاز أهمها في النقاط التالية: تتعامل المؤسسات الصحفية مع الصحفي علي أنه موظف، ولا تراعي أنها مهنة ذات طبيعة خاصة، وأن هناك فروقا في الكفاءة والموهبة بين الصحفيين، مثلها وعدد من المهن الفنية والإبداعية، وهنا يحدث الارتباك الذي وضع الصحافة المصرية بأشكالها وأدواتها المختلفة في أزمة، وخاصة القومية التي تعاني تضخما شديدا في أعداد العاملين، يتم التعامل معهم بأطر وظيفية، ويترتب علي ذلك مساواة الموهوب مع الأقل كفاءة، واعتبارهم جميعا من فئة وظيفية واحدة، ومساواة من يعمل بمن لا يعمل أو لا يحضر ويحصل علي كامل راتبه بل مكافآته، وهو ما سبب تشوها وأزمة شديدة داخل المؤسسات، جري محاولة حلها من داخل الأطر الوظيفية العتيقة فازدادت تعقيدا، كذلك من الصعب تقدير كفاءة الصحفي بالكم وليس بنوع المادة الصحفية، فأصبحت المؤسسات تعاني ندرة الصحفيين الأكفاء، وتضم عمالة أقرب للموظفين الذين لا يعملون. الحل الأمثل لهذه المشكلة الصعبة هي تحرير علاقة العمل، وتحويلها من التعيين علي درجات وظيفية ثابتة إلي العقود الحرة المحددة المدة والمتغيرة القيمة حسب الموهبة والكفاءة، وأن يتم تعويض العمالة الزائدة عن حقوقها المكتسبة بطريقة ما، إما بمنح تعويضات أو إجازات بنصف الراتب أو أي طريقة مناسبة تراها الإدارة للتخلص من الترهل الشديد في المؤسسات الصحفية، خاصة المؤسسات القومية التي جري اتخامها بتعيينات «الواسطة» فأصبحت ثقيلة الوزن وبطيئة، وهو ما انعكس علي مستوي الأداء والعجز عن التطور في مهنة تعتمد علي السرعة والتميز. نأتي إلي نقابة الصحفيين والتي أسهمت في تعميق الأزمات، وتفاقم المحنة بدلا من السعي لحلها، فالنقابيون حكمتهم بعض الهواجس، التي أدت إلي كوارث، فقد تبني الكثير من النقابيين شعار عقد العمل الموحد، وكأنه حل لأزمة تراجع أجور الصحفيين، لأن ما يهم النقيب والمجلس هو كسب تأييد الصحفيين، ومراعاة أصوات لوبي الدخلاء علي المهنة، وليس النظر إلي جوهر الأزمة، وما يترتب علي هذه الأطروحات من عواقب، مثلما تمسكت النقابة بعدم قبول عضوية الصحافة الإلكترونية أو الصحافة المرئية، بينما تجاهلت علي دخول أعداد ضخمة من الدخلاء إلي النقابة، بعقود وهمية يتم شراؤها من بعض الصحف، وبطرق ملتوية لكنها معروفة، ولم تنجح لجنة القيد بالنقابة في كبح الدخلاء من خلال اشتراط تقديم المتقدم للعضوية بإنتاج صحفي تراه ضروريا لقبول العضوية، فهناك طرق تحايل جديدة دائما، والسبب الرئيسي هو الحصول علي بدل التكنولوجيا ومعاش النقابة، والغريب أن النقابة تحرم أعضاءها المشتغلين غير العاملين في مؤسسات محددة «الصحفي الحر» من الحصول علي بدل التكنولوجيا، رغم أن الصحفي الحر هو المستقبل، وهو الأشهر والأكثر حضورا في الصحافة الأجنبية، بل ترفض أو تتواطأ علي عدم تنفيذ أحكام قضائية بحصول عضو النقابة «الحر» علي البدل، وقال لي نقابي بارز إنه لا داعي لرفع المزيد من القضايا، لأنه في حالة كسبها لن يتم تنفيذها، وكأنه يقول «يبلوها ويشربوا ميتها» مع أن دور ممثلي الصحفيين هو مؤازرتهم في الحصول علي حقوقهم. إن الخروج من محنة الصحافة المصرية يحتاج إلي تحرير المؤسسات الصحفية من الجمود الذي يقيدها، وتحرير النقابة من مفاهيم وقوالب بالية تجاوزها الزمن، وتنقية جداول النقابة التي أصبحت متخمة بمن دخلوا من أبواب وشبابيك خلفية، وتفتح أبوابها لمن يعملون في المهنة مهما اختلفت أدواتهم، لكننا نحتاج إلي عقليات أكثر انفتاحا ودماء جديدة قادرة علي مواجهة التحديات المستجدة، حتي تستطيع البقاء والإقناع والتأثير. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد