عُرف القناع على نحو واسع بين مختلف المجتمعات الإنسانية، حتى وإن اختلف استخدامه فى الوظيفة والغرض، أو المادة المستخدمة فى صنعه.وإذا كان القناع لا يزال يُستخدم لدى جميع الشعوب، فتاريخ القناع يرجع إلى مراحل مبكرة عندما كان الإنسان يخطو خطواته الأولى نحو فهم الطبيعة حوله ومجابهتها من أجل بقائه. واستمر القناع، وإن تغيّرت وتنوّعت وظائف استخدامه، مع تطوّر الإنسان والمجتمع، فاستُخدم فى السحر وممارسة الطقوس والحروب والألعاب الرياضية والعروض الفنية. ............................................................ إن ارتباط القناع بالمسرح قديم قدم الدراما نفسها، إذ كان القناع أحد عناصر العروض الدرامية الإغريقية التراجيدية، قبل الميلاد، فكان القناع يزيد من مهابة الشخصيات ذات الرفعة، بينما فى الكوميديا يضخّم القناع الصفات التى يراد الضحك والسخرية منها، واستمر استخدام القناع فى الكوميديا «ديلارتى» التى تطورت فى إيطاليا. أما فى آسيا فقد ظل وما يزال القناع يلعب دوراً مؤثراً فى الأنشطة الدينية والعروض الفنية ، وفى المسرح الأوروبى الحديث أعيد استخدام القناع فى العروض المناهضة للواقعية، ويتم استخدامه فى الدول الغربية لنفى هوية الممثل أو لعمل إبهار بصرى لإثارة الخوف أو الضحك أو لكسر الإيهام الواقعي. واستخدم القناع فى طقوس تمجيد أرواح الأسلاف الأفريقية، تجسيداً لروح السلف التى تسكن القناع، بمعنى آخر فالقناع يجسد الحضور الأسطورى الطقسي. والأقنعة المستخدمة فى طقوس تمجيد الأسلاف هى الأعلى شأناً، ويُحتفظ بها فى بيت الزعيم الروحى ولا يُسمح بالاقتراب منها لعامة الناس. وتليها فى الأهمية الأقنعة المستخدمة فى طقوس التكريس، أى الاحتفال ببلوغ الفتى أو الفتاة من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب، لإدماج الصبية والفتيات كرجال ونساء كاملى الأهلية فى النسيج القبلي. وتأتى فى المرتبة الثالثة الأقنعة المستخدمة فى طقوس «التطهير» التى تقام قبل موسم الزراعة مباشرة. وأما المرتبة الأخيرة فتحتلها الأقنعة المستخدمة فى الطقوس الأقل ارتباطاً بالشأن الديني. ويكون طابعها أقرب للاحتفالات والترفيه كالطقوس المصاحبة للحصاد. والمجتمعات الافريقية التقليدية أنتجت ذخيرة غنية ومتنوّعة من الأقنعة المتباينة فى أشكالها ورموزها، فهناك نمط من الأقنعة ينحو نحو الطبيعية والواقعية وعادة ما يكون تصويراً لوجه إنسانى أو حيوانى حيث نجد الوجه وبعض التفاصيل (العينان، الأنف، الفم) أى أن الوجه عبارة عن مساحة كاملة، فى نمط آخر نجد جنوحاً نحو التجريد بحيث يتم الاستغناء عن الزوائد السطحية مقابل تحقيق قيمة تجريدية، وتتحوّل تفاصيل الوجه إلى عناصر لكل منها علاقة بمساحته، ويربطه بالعناصر الأخرى الإيقاع العام للقناع، يُوجد نمط ثالث يجمع بين الأسلوبين، وكما تنوعت أساليب التصوير فى القناع، تتنوّع كذلك أشكاله. والقناع الإفريقى لم يتم تصميمه كقطعة فنية ساكنة، لأن الحياة لا تدب فيه إلا فى حالة ممارس الطقوس والحركة عندما يتحد مع أضواء المشاعل وإيقاعات الطبول والرقص والغناء. فالقناع ليس الجزء الخشبى المعروض فى المتاحف لأنه جزء من زى ضمن طقس كامل. والدور المهم للقناع فى الحياة الإفريقية التقليدية ايجاد أهمية استثنائية لصانعه، فهو ليس فناناً مبدعاً لعمل فحسب، بل هو مشارك فى سبر أغوارالحياة، لذلك فمشغله ليس ورشة فنية عادية، بل محراب له قدر من التوقير. والرموز التى يزخر بها القناع الأفريقى تتراوح بين الرقم واللون والشكل الهندسى ومعانى الرموز متشعبة للغاية لأنها رموز تتراوح بين العلنية النسبية والسرية المطلقة التى تُحاط بعض الأحيان بغموض لا يفقه كنهه الا قلة من الشيوخ حكماء القبيلة، والصعوبة تأتى من أن معرفة معانى رموز القناع يحددها المستوى المعرفى للشخص. وظلت الأقنعة الإفريقية محملة بوظيفتها الرمزية والروحية ومعبرة عن الفن والهوية الحضارية لشعوب أفريقيا، ولم تبق حبيسة موطنها الأصلى وإنما حققت امتداداتها فى الفن التشكيلى الغربى من خلال روحانيتها وتجريديتها، ولا يزال أثرها قائما فى الفن التشكيلى إلى اليوم وخاصة الحركة الفنية التشكيلية التكعيبية. القناع الافريقى حقل «انثروبولوجى» و«إثنوجرافى» خصيب يرسم خصائص المجتمعات التى تبدعه، ونتاج إبداعى إنسانى يقوم على الارتباط الروحى بالمقدّس والاعتراف الرمزى بالجسد الموسوم بطقوس احتفالية يمتزج فيها السحرى والغرائبى والجمالي. ولذلك، فمن الخطأ أن نعدّه إبداعاً ساذجاً وتلقائياً يقوم على الغرابة والتخلف بمعناهما السلبي، فهو فن بسيط، غير معقد، يعكس الحس الجمالى والتعبيرى الصادق والحصيف عن المشاعر وخلجات النفس البشرية لدى الإنسان الإفريقي. وفضل القناع الإفريقى (أو النحت الزنجى عموماً) فى تطوُّر الكثير من الفنون الحديثة لا ينكره أحد، باعتراف كبار المبدعين، أبرزهم بيكاسو، وسيزان: الأول فى استعماله للتسطيح اللونى زمن المرحلة الممهدة للتصوير الانطباعي، والثانى فى اكتشافه أسلوب التشريح الشكلى فى الرسم التكعيبي، بحيث عبَّرة العديد من اللوحات عن اهتمام بيكاسو بالنحت الزنجي، أبرزها التى رسمها عام 1907 «آنسات أفينيون».. وبعد ذلك بسنوات أصبح الفنّ الأفريقى فناً رسمياً فى سوق باريس للفنون الجميلة.