من كريم نِعَم الله تعالى على خَلْقه؛ تعاقبُ فصول السنة، ومن ذلك فصل "الغنيمة الباردة"؛ الشتاء، الذي يقف فيه المرء وقفة المتدبر لقوله تعالى، في سورة "قريش": "لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ(1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ(2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ(3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)"، وهي سورة مكية. وتذكر السورة، وفق مفسرين: "نعمة الله تعالى على قريش، المتمثلة في اجتماع أمرهم، والتئام شملهم، ليتمكنوا من الارتحال صيفا وشتاء، في تجارتهم، وجلب الميرة والطعام لهم". وفي اللغة: "أَلِفَ: ألفت الشيء، إلفا، وآلفته إيلافا: إذا لزمته، وعكفت عليه مع الأنس به، وعدم النفور منه". وتقول السورة إن من منَّة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف، ومنَّة الرزق الذي أفاضه الله عليهم بهاتين الرحلتين, ومنة أمنهم الخوف من كل اعتداء. وبحسب صاحب "الظلال": "هو تذكير يستجيش الحياء في النفوس، ويثير الخجل في القلوب". فالشتاء، كالصيف، هو محل نعمتي الأمن والرزق من الله، بالارتحال والسعي في الأرض. فمن اجتهد في طاعة الله، صيفا وشتاء، كان حقا عليه أن يقيه برد جهنم، وحرها. فقد وصف تعالى، أهل النار، وما يتعرضون له من عقاب أليم، بقوله: "لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا* إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا* جَزَاءً وِفَاقًا".(النبأ: 24 - 26). والغسّاق هو: "الزمهرير البارد الذي يحرق من برده"، حسبما قال ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما. لذلك كان من شيم المؤمنين الدعاء: "اللهم أجرني من زمهرير جهنم". ومن الظواهر التي يحفل بها الشتاء كذلك، هطول المطر، ووقت هطوله من الأوقات التي يُستحب فيها التوجه بالدعاء إلى الله، باعتباره من أوقات رجاء الإجابة، وقبول الدعاء. وأفضل الذكر ما جاء عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يقول عند نزول المطر (الغيث): "اللهم صيبًا هنيئًا". (خرجه أبو داود)، وكان يقول: "اللهم صيبًا نافعًا". (النووي في الأذكار). وعند اشتداد المطر؛ علمنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن نقول: "اللهم حوالينا ولا علينا، الله على الآكام والظِراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر". أما إذا عصفت الريح، فقد علمنا أن نقول: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أُرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أُرسلت به". وعن الريح قال: "الريح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها". أما عند سماع الرعد فورد عن عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، أنه كان إذا سمعه ترك الحديث، وقال: "سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ". فإذا وفقك الله تعالى، أيها القاريء، إلى قيام بعض ليالي الشتاء، أو صيام بعض أيامه، أو غير ذلك مما ورد من سائر ألوان الطاعات، فاحمده تعالى؛ أن أيقظك لعبادته، والناس من حولك نيام، واحمده كذلك، أن وفقك للصيام؛ والناس من حولك مفطرون. رُوي عن داود بن رشيد، قال: "قام رجل ليلة باردة ليتوضأ للصلاة، فأصاب الماء باردًا فبكى، فنُودي: "أما ترضى أنا أنمناهم، وأقمناك؟". وأختم بهذه الأبيات لأحد الشعراء: كم يكون الشتاء ثم المصيف.. وربيع يمضي ويأتي الخريف.. وارتحال من الحرور إلى البرد.. وسيف الردى عليك منيف.. يا قليل المقام في هذه الدنيا.. إلى كم يغرك التسويف؟.. يا طالب الزائل حتى متى.. قلبك بالزائل مشغوف؟.. عجبًا لإمرئ يذل لذي الدنيا.. ويكفيه كلَّ يوم رغيف". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد;