من الحقائق المسلم بها في مدينتي أنه لا أحد يموت بالجوع. لذلك عندما جاء العجوز الكسيح يطرق الابواب . يقول (جائع .. سأموت من الجوع ) ماصدق أحد كلامه غير المنطقي .. كل الأبواب طرقها دون جدوي. راح العجوز الكسيح يمشي علي فخذيه .. ساحباً خلفه جسده المبتور الساقين .. ماعاد يتذكر أنه في ما مضي كان له ساقان يسير بهما , ماعاد يتذكر تحت أي قطار تركهما ومضي .. لكن الشيء الملح عليه الآن هو أنه جائع .. جائع حتي الموت .. راح ينبش صناديق القمامة الخالية إلا من الأوراق وبقايا المعلبات .. راح يمضغ أوراق الشجر المتناثرة علي الاسفلت بصق مرارتها في أسي. حين وجدناه ميتا في الصباح, ذلك العجوز الكسيح الذي طرق ابوابنا ..الذي قال سأموت من الجوع .. هاهو ميت حقاً كما توقع لنفسه .. ساعتها أدركنا أن الرجل خدعنا خدعة من نوع ما .. فهو لابد كان يعاني من مرض مميت .. لا يهم ما هو .. لكنه مرض آخر غير الجوع .. لكن لماذا كذب الرجل؟ هل مرضه معدٍ ,فخاف أن يعافه الناس؟ انتابنا الهلع لذلك .. وتذكرنا انفاسه المتهدجة ..ورائحته العطنة ..وجسده النحيل وجلده المتغير اللون .. ونظرته الزائغة .. تذكرنا ضعفه و بؤسه و قذارته .. الرجل مريض حقا .. راح يطرق الأبواب بخبث .. وينشر مرضه المعدي المميت .. كل الأبواب طرقها وترك عليها بصماته الملوثة .. كل البيوت فتحت له وقال جملته القصيرة الماكرة (جائع ..سأموت من الجوع) . وبث في هوائها زفيره المسموم .. أفزعنا الرجل بموته .. الذي كان يعرفه مقدماً .. تركنا الطبيب يحدد سبب الوفاة, طمأننا وأكد خلو الرجل من أي مرض . الجسد الملقي في منطقة نائية .. حامت حوله الكلاب, اصطدمت أسنانها بالجلد الأزرق المتغضن كإطار سيارة .. هي لم تحاول أن تغرز أسنانها .. فقط دارت حوله دورة او دورتين ..وأيقنت أنه خالٍ من أي لحم ..فابتعدت غير عابئة به وبوجوده.. الذباب الذي حلق حوله .. لم يجد أي مسام يدخل منها خراطيمه .. فطار مبتعداً. الجسد تحلل وترك بقعة زيتية .. تشوه تلك المنطقة التي كانت نائية .. والتي امتد اليها العمران .. لكن البقعة كانت تتسع لتجعل شوارعنا زلقة .. تجبرنا أن نخفف من سرعتنا وأن نتمهل قليلاً.