كان عربيدا.. فحياته كلها.. بليل.. وخمر.. ونساء!! صادق الشيطان منذ صعدت أنفاس أبيه الأخيرة.. وترك له وحده ثروة طائلة.. وهو لم يتخط بعد الثلاثين.. واتخذ من الليل مسرحا يقوم عليه بأدواره.. فيركب سيارته "الكريزلر" قاصدا دور اللهو التي يجد فيها الغذاء لنزواته الجائعة حيث بائعات الهوي.. فلا يلبث أن تقرع الكؤوس.. وتتعالي الضحكات.. وكلهن يشربن في صحة "عادل بك" ثم بعدها تمد الموائد الخضراء ليتبارين معه في لعب الورق.. وليظهر مهارته في كسب نقودهن.. وكان يخسر دائما.. غير أن الذي كان يهون عليه تلك الخسارة أن لاعبيه وهن من الفتيات كن يتناولن الورقة المالية بشفاههن من بين شفتيه.. وكانت هذه لذته في اللعب!! نسج عادل حياته علي هذا المنوال.. إذعان لغواية الشيطان.. وترد في حمأة الرذيلة.. ومرح في جنبات الحانات بين موائد الشرب والميسر.. مبعثرا نقوده بين هذه وتلك من أولئك الغانيات اللائي يبعن أجسادهن لأمثاله من الشباب الطائش النزق.. ويخرج من المراقص في أخريات الليل كالذاهل المجنون ينظر في وجه كل شخص.. ويترنح يمنة ويسرة.. يسير مرجوف الفؤاد خائر القوي.. ولايزال يتخبط في دياجير سكره وعربدته حتي يصل داره شبحا محطم الا يلوي علي شيء.. إلي أن جاء يوم.. وكان مضطجعا داخل عربته بميدان "سليمان باشا" رانيا ببصره الشارد خلال زجاج النافذة إلي نهاية الطريق.. كأنما يستعرض في ذهنه صور الفتيات اللائي عرفهن لينتقي من بينهن واحدة يقضي معها ليلته: سونيا.. لا.. لقد كانت معي أمس.. نيللي.. إنها ليست بذات الفتنة التي أنشدها.. ماريا.. جينا.. كيتي!! وبينما هو يقرأ في لوحة خياله أسماء صديقاته اهتدت إليه يد من النافذة تطلب أن يعطيها "شيئا لله" والتفت إليها ليهوي بيده علي وجهها بصفعة قوية.. لماذا؟.. لأنها قطعت عليه حبل أفكاره.. وأضاعت من ذاكرته فتاته التي كان سوف يختارها صيد الليلة!!.. وسارت الفتاة تبكي حظها.. وجوعها.. وتبعها بنظراته.. فرأي فيها جمالا ساذجا.. فيه براءة.. وفيه وداعة.. جمال يبعث علي الرثاء والإشفاق.. وغابت عن نظره فأدار محرك سيارته، وفي سرعة خاطفة أدركها.. وأخذ يخاطبها في عطف وحنو: - سامحيني ان كنت قد أسأت إليك.. لقد أدركت أخيرا أنك مسكينة وتستحقين العطف.. أولا تقبلين أن تعملي عندي خادما.. وسأنقدك أجرا طيبا.. خير لك من السؤال؟؟ وقبل أن تفكر قبلت.. أليست تود أن تعيش..؟؟!! وهناك في منزله ألقته يفرغ سائلا أحمر اللون قاتمه من زجاجة كانت موضوعة علي المنضدة، وقدم إليها كوبا قائلا: - اشربي.. - ما هذا..؟؟ ألم أقل لك يا سيدي إني جائعة.. وإن أمعائي خاوية منذ البارحة.. وما جئت بي هنا الا لتقدم إلي ما يسد رمقي. - ولكن هذا شراب يفتح الشهية - وهل يا سيدي لجائعة أن تستعين بشراب يفتح شهيتها.. أرجوك. - قلت لك اشربي.. أنه سوف ينسيك همومك وآلامك.. وبعدها ستجدين راحة في تناول الطعام. وحسبته الفتاة مجرد شراب فتجرعته!! وارتاح صاحبنا لما فعلت.. وضحك ملء شدقيه في قهقهة صاخبة مزهوا بانتصاره.. واستيقظ في نفسه حيوان النزوة فاستجاب ليقظته وانقض عليها بوحشية كاسرة. كل هذا والفتاة مسترخية في استسلام لا ارادي..!! وأفاقت لتبحث عن شيء ثمين كانت تحرص عليه قبل أن تلج ذلك الوكر.. وعبثا حاولت فلم تجده.. وكانت الصدمة قوية.. فأخذت تجتر أنفاسها وتنتزع جسدها من جوف السرير.. ودون أن تنبس ببنت شفه اتجهت إلي الشرفة لتلقي بنفسها!!.. بيد أن يدا قوية أمسكت بذراعيها، وسمعت صوتا يقول: - أليست بك حاجة إلي الطعام..؟؟ - طعام أيها الوغد..!! إني لست جائعة.. ولكنك أنت الجائع،، أتيت بي هنا لتشبع رغبتك الدنيئة في عذراء يتيمة مسكينة.. أوهمتها أنك رجل طيب تريدها أن تعيش من عملها خير لها من السؤال.. أنت.. يا من ترتدي ثوب الطيبة.. وتنطوي نفسك علي روح وحشية.. وتغرر بطيبتك المزعومة من يوقعها القدر في طريقك!! دعني أقتل العار الذي لحقني.. - أما أنك تصنعين هنا جريمة تلحق بي الأذي.. فلا.. ولكن الخلاء واسع.. وأمامك بيوت الدعارة كثيرة.. وأمثالك كثيرات.. وأخذ يجرها بيده.. وكأنه يكنس بها الأرض حتي أتي الباب وقذف بها إلي الخارج وأوصده دونها .. ودخل.. .. ومشت هي علي غير هدي.. حائرة لا تدري ماذا تفعل.. ساخطة علي ذلك المجتمع القاسي الذي سوف لا يرحم.. وأخذت تبحث عن مكان يقبرها وسرها الدفين قبل أن تظهر رائحة سقوطها.. ووجدت همسا يوحي إليها أن الحياة حلوة، وكم من فتيات سقطن دون قصدهن.. بل القدر الجائر هو الذي فرض عليهن الزلة.. وفرض عليهن أن يعشن غارقات في بحر الحياة .. العميق المليء بالأحزان والآلام.. وقفزت إلي مخيلتها عبارة الوحش الأخيرة.. "أمامك بيوت الدعارة كثيرة، وأمثالك كثيرات".. ومنذ ذلك اليوم عرفت "زينب" كيف تحترف البغاء!! منذ عام ونصف.. وكانت القاهرة تغط في نومها.. وجندي البوليس لا يفتر لحظة عن القيام بواجبه.. ولا يعطي نفسه راحة ولا هوادة، وتحت أحد أعمدة النور وجدها تجلس القرفصاء.. فهزها هزة عنيفة أيقظتها من سباتها العميق، وقبض علي معصمها.. وسيقت إلي المخفر: - ما اسمك..؟؟ - اسمي الحقيقي.. "زينب" .. أما اسمي المستعار "ليلي".. واعتدل الضابط، وكأنما راع انتباهه تلك الاجابة الغامضة.. - كأنك تقولين أن خلف ذلك الاسم المستعار قصة..؟؟ - نعم هناك قصة.. بل مأساة!! أما متي ابتدأت؟ وكيف انتهت؟ فهذا ما سأسرده لك.. إنها قصة أسرة فقيرة تتوقف حياتها البائسة علي عائلها الكبير ذي الوجه الشاحب الممتقع والجسم الفارع الفارغ.. سكنه الهزال ولازمه الضعف حتي ليخيل لمن يراه أنه يسير بخطي واسعة نحو فجوات القبور.. وكان يغادر بيته قبل أن ينتهي أجل الليل ليسير في طريق خالية إلا من البرد القارس والهواء اللافح لينفذ من جلبابه البالية فتتقلص أعضاؤه، وتربد سحنته وتصطك أسنانه فيتأوه ويتألم ويمشي متعثرا في دياجير حزنه وحسراته قاصدا المزرعة التي يعمل بها سحابة يومه منحنيا علي فأسه، جادا في البحث عن قوت أولاده الصغار الذين تركهم يبكون ويئنون.. فلا تكاد تنطوي صفحة النهار حتي يذهب لينتظر حضرة المالك الذي سيأتي من القاهرة التي اعتاد أن يذهب إليها كل يومين حيث الملذات والشهوات.. حتي إذا أتي فلابد له من إنفاق بعض الوقت في الأكل والشراب والاستحمام.. ويذهب الشيخ العجوز ليسأله أجره، فيمد يده في حافظته وينتقي من بين جنيهاتها المرصوصة عشرة قروش فيأخذها مغتبطا، ويستحثه علي السير صدي بكاء أولاده الصغار الذين لا يعرفون لاحتمال الجوع سببا يلهون به معداتهم!! ويذهب إلي البيت فتقابله الأم والأطفال من ورائه قد انفطرت قلوبهم وتورمت أعينهم وبحت أصواتهم يجلس وعن يمينه أولاده الستة وإلي جانبهم الأم المسكينة تطعمهم وهم يأكلون بنهم وشراهة لتطفيء غلة الجوع التي تسيطر علي أحشائهم من فجر النهار..!! وتوالت الأيام علي هذا المنوال، والبؤس يزداد.. والشقاء ينمو والتعاسة تخيم علي الأسرة.. حتي كانت ليلة، وبينما الوالد يداعب أطفاله.. إذا بالباب يطرق.. وتنطلق هذه العبارة من الطارق: - عم عبدالموجود هنا؟؟ - أيوه.. - خليه يكلم البك.. كان البيك المالك قد زار أرضه فأعجب بزراعتها فعينه ناظرا تقديرا منه له.. فتهلل الوجه المقطب.. وأخبر الأسرة فصفقوا فرحين وهللوا مستبشرين.. وبزغ أمام مخيلتهم أمل يشع.. ودار بخلدهم انهم قد انتهوا من تمثيل أدوار البؤس.. وأيقنوا أن الدهر قد انكمشت براثنه وأن وجه الزمان قد خلا من تجاعيد الشقاء..! بيدأن أمارات الغبطة والفرح التي بدت عليه أنسته أن يتقاضي أجر شهر علي الأقل لتحسين حالته ولا يخفي عليك أن المالك سافر ليقضي يومين في القاهرة كعادته واحتدمت الأفكار برأسه.. ماذا يصنع والأطفال ينتظرون عودته ليتناولوا الطعام الحديث؟؟ وخطرت له فكرة.. فأمر الخازن أن يرسل كيلة من الأذرة وأخري من القمح يخصم ثمنها من مرتبه. ولحظه العاثر ينسي حضرة المالك بعض ملابسه فيرجع لأخذها ويقابل العامل المختص بحمل ذلك المقدار ويدور الحديث بينهما.. فيظن صاحبنا أن الخازن والنار اشتركا في سرقة هذا المقدار فيذهب إليهما فورا ويفصلهما! كان المنتظر أن تنتهي القصة هنا ، ولكن القدر يا سيدي أبي إلا أن يكتب بقلمه القوي حبكتها الأليمة. ان الخازن الذي يعمل من مدة طويلة اقتصد جزءا من المال يستطيع أن ينفق منه لمدة معينة.. اما الناظر المسكين فقد اصيب بالفالج في الوقت الذي رفت فيه.. وعلمت الزوجة فاعترتها نوبة اسلمت روحها للموت.. ولحقها الوالد بعد أيام بقي لك أن تعرف مصير أولاده! لقد أقلتهم عربة الأيام.. وحطت برحالهم في تلك المدينة.. ولو قدر لك أن تذهب في منتصف الليل إلي شارع ما سوف تري ثلاثة أطفال افترشوا الأرض والتحفوا السماء لا تغطي أجسادهم سوي غلالات بالية ويؤلمك أن تري الشرطي يركلهم بحذائه الضخم.. أما الفتيات الثلاث فهن يعرضن أجسادهن رخيصة في أحد بيوت البغاء التي تمرح فيها الذئاب البشرية. كان ذلك إلي عهد قريب.. والآن قد ألغي البغاء ولفظتهن البيوت في زوايا القاهرة.. وفي قارعات الطرق وتحت أعمدة النور! "شيء واحد نسيته المسكينة وهو أن تخبر الضابط أن حضرة المالك سلبها عرضها ذات يوم!! مجلة الفن العدد 21 الاثنين 29 يناير 1951 ونشرت في بريد القراء