منذ قراءتى السطور الأولى لرواية «حافة الكوثر» للشاعر والصحفى على عطا (الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بداية العام الحالى 2017) وجدت نفسى مُنْجذِباً للنص ومُتفاعلاً معه، وقد أرجعت ذلك لسبيبن، الأول: أن هناك علاقة صداقة تربطنى بالكاتب تجاوزت العقدين من الزمن، فرضت عليّ التفاعل بالنص لجهة معرفة ما يطرحه صديقي، والثاني: أننى أقبلت على قراءة هذا النص على خلفية «الأذن تعشق قبل العين أحيانا» حيث استمعت لآراء كثير من الإعلاميين والنقاد، منها ما يريح الضمير ويشجع المؤلف وغيره عن الإبداع، ومنها ما سيجعل على عطا لو سمعه بشكل مباشر لن يجرؤ على تأليف رواية أخرى على النحو الذى رأينا، حيث يتداخل الخاص بالعام. تلك كانت البداية، لكن النهاية غير هذا وأنا هنا أقدّم قراءة سياسية للرواية فقد اكتشفت أن تأثرى بهذا النص المفعّم بالحيويّة، والمتعمق فى طرح الأبعاد النفسية نابع من الصداقة أو من تقييم الآخرين، وإنما من تفاعلى مع حركة «حسين» بطل الرواية باعتباره الشخصية المحورية، على المستويين الخاص والعام، حيث وجدت فيه تمثيلا لى وللآخرين من أبسط رجل فى الشارع وإلى غاية أهم وأكبر زعيم وقائد، أى من شلاطة إلى ترامب، وما يميز البطل عن الآخرين هنا هو دخوله المصحة النفسية للمرة الثالثة ( تحمل اسم الكوثر فى الرواية) للعلاج بكل إقدام ووعي، وإصرار الآخرين الفاعلين على المستوى الدولى بالقول: إنهم أصحاء ولكن فى حقيقة الأمر هم مرضى. عالم «الكوثر» يُعدُّ صورة مصغرة لفضاء الحياة الاجتماعية، فيه يعالج وأحيانا يعيش لسنوات بعض من عامة الناس وكثير من المثقفين، من مراحل عمرية مختلفة، ومن مستويات اجتماعية متناقضة، أبناء أزمنة سياسية ثابتة ومتغيرة، حاملين هموم الحياة، ومُحمّلين بأوزار الهزائم والانكسارات والتراجع، بما فى ذلك فشل الثورة الأخيرة فى تحقيق أهدافها، المدهش أن المشاركة داخل المصحة النفسية تأتى محملة بصفاء النفس البشرية حتى لدى أولئك الغرقى فى أمراضهم، أو ميئوس من علاجهم، وهنا تظهر تجليات النفس فى عطائها وانفتاحها، ومنها بالطبع شخصية البطل «حسين» وتظهر أكثر فى اعتبار الكوثر المسكن الآمن، كما جاء على لسان البطل فى الفقرة التالية: «هل يمكن يا الله أن يصبح الكوثر وطنا بديلا لناسه الوافدين إليه رغما عنهم من كل حدب وصوب؟.. هو بات كذلك بالفعل، ولا بديل إلا شوارع لا ترحم ساكنيها» يظهر الإبداع عند على عطا، من خلال روايته، فى التوظيف الواعى للأحداث وللمعلومات وللتاريخ وللأماكن.. إنه ابن بار للأماكن التى عاش فيها أو مرّ عليها عابراً، أو عرفها وصفاً من خلال القراءة، وأيضا وارث شرعى لحكايات التاريخ، ومُحوّل هموم البسطاء والمعوزين إلى قصص تحمل من العِبَر بما يجعل القارئ مشدوداً إليهم، وهو هنا يحقق أمرين، الأول: التفاعل الإيجابى معهم، والأمر الثاني: تحويل تجاربهم الحياتية إلى عمل بطولي، دون الفصل بين مجالات الحياة، حيث تحضر السياسة ومعها المجتمع والاقتصاد والثقافة، ولكل هذه المجالات تاريخها وزمنها، الذى لا يمكن اعتباره تاريخا للبطل وحده، فهو أيضا حياة مشتركة مع صديقه الطاهر، وزميلته مي، وزَوْجُه دعاء، وعاشقته سلمى التى طاردته حتى تزَوَّجها، وضيَّقت عليه حتى طلَّقها. على عطا، وعلى لسان الراوي «حسين» يعيد تذكيرنا بأهميّة القضية الفسطينية لدى المصريين، وهى حالة وجدانية وقومية فى الضمير المصرى المتحفز دائما للدفاع عنها، لدرجة أن همومه تزول تذكرا وتفاعلا أمام المعاناة النفسية الخاصة، وهو ما يبدو جليا فى هذه الفقرة: «فى بيت الشعر فى رام الله رأيتنى أقابل المتوكل طه، ومراد السوداني، ومحمد حلمى الريشة، وغسان«قطان.. وباسمة التكروري، التى كانت أصغر روائية فى فلسطين فى ذلك الوقت، إذ كان عمرها لايتعدّى 19 عاما، وكانت تنادينى عمّو، فأغتاظ». فلسطين تحضر لدى على عطا عبر الشعراء والأدباء كما رأينا سبقا، ولها أيضا حضور سياسي، وتلك من العلامات الدالة فى هذه الرواية .. لنتابع:«فى المقاطعة رأيتنى أقابل ياسر عرفات بعد أن اجتزت جهازا إلكترونيا عند المدخل للتأكد من أننى لا أحمل أسلحة ومفرقعات، مظهره العام، خصوصا ارتعاش شفتيه، كان يدل على أنه يعانى مشكلات صحية.. بدا المكان الذى التقطت لنا فيه الصور، وكأنه سجن خُصِّص للزعيم، وليس مَقراُّ لرئاسة ما يسمى السلطة الفلسطينية، لا أتذكر مما قاله لي، أكثر من أنه فخور بأنه كان فى شبابه ضابطاً فى الجيش المصري». من ناحية أخرى تجمع رواية على عطا بين الحس الإنسانى المرهف المؤثر وبين الكشف عن حال المجتعات العربية، ممثلة فى مصر، وهذا الوصف يجعل القارئ فى حال من التأثر لدرجة البكاء أمام مشاهد بعينها جاءت ناطقة داخل النص، وهو ما حصل لى تحديدا، وقد تساءلت: ماذا لو واجهت هذا المصير يوما ما وانتهيت إلى مصحة نفسية قد لا تكون بحميمية وتجربة مصحة «الكوثر»؟ وكيف نفعل حين يدخل واحد من معارفنا قريب أو صديق إلى مصحة نفسية ونحن لا نعلم بذلك؟. مهما يكن، فإن على عطا فى روايته «على حافة الكوثر» جعل من الكتابة حياة وتعبيرا وعلاجا ومشاركة، وتبليغا بحال الإنسان المعاصر، وقد يكون ما كتبه فى الصفحة 88 كاشفاً عن كل ذلك، وهو خير ما نختتم به هذا المقال:(رسالة من الطاهر بتاريخ 12/5/2015) إذن أنت تدرك ما الجوهر، فالأمر ليس مجرد ولع بشهوة، أو وسيلة للارتقاء الاجتماعي، بل هو الكتابة كموقف من العدم، أو كما تشير أنت مُتَمَاهِياًّ مع خاتمة رواية إيزابيل الليندي: صورعتيقة، خلاص للذات عبر الكتابة، فأكتب. لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه;