الحمد لله انتصرت مصر! وقرت أعين الشهداء في مثواهم, واستراحت نفوس المصابين والجرحي; فقد انتصرت الثورة بعد محاولات تعطيلها, ونقض غزلها. توحد الشعب وأجري انتخابات حرة نزيهة بحق, لتقدم لمصر أول رئيس مدني منذ ستين عاما, يأتي بإرادة المصريين واختيارهم دون أن يفرضه أحد عليهم, وكان خروجهم في طوابير طويلة أمام لجان التصويت, بعزيمة يتفوق فيها العجائز والمرضي علي الشباب والأصحاء دليلا علي عودة الروح إلي وطن أثخنته الجراح, وأثقلته الهزائم, ودوخته ممارسات الطغاة والكذابين والمنافقين والنصابين والمحتالين.. الحمد لله انتصرت مصر, وليس الإخوان المسلمون أو التيار الإسلامي, وإنما مصر كلها هي التي انتصرت; حين قدمت للدنيا كلها نموذجا رائعا للتنافس علي منصب رئيس الجمهورية, ومن قبل مقاعد البرلمان بغرفتيه, واختار الناس بمحض إرادتهم من رأوا فيه القدرة علي تنفيذ مطالبهم ورغباتهم, ومنحوه حق تمثيلهم في المنصب الرئاسي الرفيع, وفي مجلسي الشعب والشوري, لمدة محدودة ينفذ برامجه ومشروعاته, ومن ثم يري الناس إذا نجح أن يجددوا الثقة فيه, وإلا اختاروا غيره. الحمد لله انتصرت مصر.. ولم يكن انتصارها لنفسها فحسب, ولكنه كان انتصارا للعالم العربي, وللأمة الإسلامية, ولإفريقيا وآسيا, وكلها تري في مصر عقلها وقيادتها, والرائد الذي تسير من ورائه, وتستلهم تجربته وتتأثر بما يجري له. لقد كسبت مصر من تجربتها الديمقراطية مع كل العثرات والمتاعب مكاسب عظيمة, ما كانت لتحققها لو أنفقت المليارات! فمصر لها مكانها ومكانتها ويعرف العالم قدرها وتاريخها وحجم حضورها. ومن ثم فإن المصالحة الوطنية من أجل البناء والتعمير ومن قبل ذلك وبعده الحرية والعدل والكرامة الإنسانية, تستوجب أن تراجع بعض القوي مواقفها, وتصحح سلوكها, وتنحاز إلي جانب الشعب وإرادته, أو علي الأقل لا تصنع المطبات الحادة أو الحفر العميقة, حيث تفرض علينا اللحظة أن نستغل كل ثانية في العمل والإنتاج من خلال وحدة يغذيها التنوع. علي كل الأطراف أن تسلم بهوية الشعب المصري الإسلامية, وأن تكف عن محاولات الاستهانة بهذه الهوية أو تغييرها أو فرض هوية أخري علي شعب مصر العربي المسلم بالعقيدة والحضارة, وليعلم الجميع أن من أهم خصائص مصر الحضارية أنها هاضمة, وأنها تستوعب العناصر الصالحة من كل الحضارات, فهي حضارة فطرة تقبل ما يتوافق معها, وتدع ما لا يستجيب لطبيعتها. وعلي الإعلام المضلل أن يتقي الله, إذا بقي لديه ارتباط بالله; فيكف عن الكذب والتضليل والتدليس والنفاق, وأساليب القذف والشتم, وتكفي نظرة إلي صحف الأسبوعين الأخيرين قبل إعلان نتائج الانتخابات, وبرامج الفضائيات لنتذكر كم الأكاذيب والافتراءات والبهتان والشتائم البذيئة التي حملتها الصفحات والشاشات, وهو ما ينبغي أن يتطهر منه الإعلام المصري ليحظي بالقبول لدي المتلقي. ومن نافلة القول أن الهياكل السياسية التي أسسها النظام الفاسد من أحزاب لا وجود لها في الشارع, أو مجالس وهيئات تهدر أموال الدولة ولا تفيد المجتمع, لا محل لها في المرحلة الثورية, ويجب أن تحل نفسها أو تندمج مع غيرها, ويكف أصحابها عن شهوة الظهور الإعلامي, وتعطيل المراكب السائرة, لمجرد إثبات الذات أو السعي لمصالح ضيقة. ويتبع ذلك السادة الفضلاء الذين ما زالوا يتصدرون المشهد السياسي والفكري طوال ستة عقود, فكانوا ناصريين مع عبد الناصر, وأضحوا ساداتيين مع السادات, وصاروا مباركيين مع مبارك, ولا يخجلون من أنفسهم وهم يرتدون اليوم ثياب الثورة, وقد بلغوا أرذل العمر وأرذل الفكر وأرذل السلوك. عليهم أن يخلدوا إلي الراحة, وأن يتوبوا عما اقترفوه من تضليل وتدليس, ونفاق وتزوير, ويطلبوا من الله سبحانه أن يغفر لهم ويرحمهم إذا كان في اعتقادهم بقية صلة بمن تذل له الرقاب في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. أما الدولة العميقة التي آذت المصريين طوال ستة عقود, وأهدرت كرامتهم, وجعلتهم معرة الأمم; فيجب أن تتطهر من داخلها أو بالتشريع, فلا يعقل أن تمضي الدنيا كلها علي طريق العمل والبناء, ونحن مشغولون في دولتنا العميقة بالتفتيش في أفكار الناس, وشغل المجتمع بالشائعات الخائبة; وتحريك السلطات والإدارة نحو قضايا ثانوية تلتهم وقت الشعب وماله, وتدخله متاهات ليس في حاجة إلي زيارتها. إن انتخاب رئيس جديد يعد نفسه خادما للأمة, ويتعهد بألا يخونها, وأن يكون مواليا لها ووفيا, يفرض علينا أفرادا وجماعات وأحزابا ومؤسسات أن نتوحد خلفه علي اختلاف مشاربنا واتجاهاتنا, وأن ندعمه بالرأي والفكر والنصيحة والمعونة, خاصة أنه استعاد في خطابه الأول بعد إعلان نتيجة الانتخابات خطبة الخليفة الأول أبي بكر- رضي الله عنه: إني وليت عليكم ولست بخيركم, فإن أحسنت فأعينوني, وإن أسأت فقوموني, أطيعوني ما أطعت الله فيكم, وقد قال له أحد أبنائه شيئا قريبا من هذه الخطبة سنطيعك ما أطعت الله فينا مما يعني أن الرجل حريص علي أن يكون نموذجا وقدوة للحكم الذي ترجوه الأمة وتحلم به, ويقدم لمن يخافون الإسلام وقيمه صورة للحاكم الذي لا يحكمه كهنوت, ولا يملك حرمانا أو غفرانا, ولكنه خادم للأمة يسعي لقيادتها من خلال مؤسسات تشارك وتوجه وتعمل وتنتج. الحمد لله مصر انتصرت لأن شعبها امتلك القيادة, ويستطيع أن يتوحد تحت قيادة واحدة, ويلتئم جميع المصريين في بوتقة واحدة لمواجهة ركام المشكلات الحادة والمزمنة, والأحزان العميقة والمؤلمة.. وهنيئا للشهداء, فقد أورقت دماؤهم انتصارا مؤزرا يفخر به المصريون جميعا من أيدوا مرشح الثورة, ومن أيدوا المرشح المنافس حفظ الله مصر وأهلها, وهيا للعمل والبناء. والله المستعان. المزيد من مقالات د.حلمى محمد القاعود