انخطفت عيني إلى هناك. ناصية الشارع العريض أمام بيتنا. مكان التجمع المعتاد لها. ثلاث قطط منها فقط الآن فى المكان.. مكان الملتقى المركزي المتفق عليه بين مجموعة قطط المنطقة. واحدة مشمشي وواحدة بيضاء وواحدة رمادي فى كحلي. تتناوش وتتداعب وتتصارع بالأطراف والمخالب والذيول وتتمرغ بتراب الأرض فى انسجام متصاعد. تتوقف القطط بين لحظة وأخرى مترصدة مدخل الشارع العريض مشرعة الآذان إلى أعلى فى تشوق يلتمع بالعيون. متى تصل العربة الفولكس إلى مدخل الشارع.؟. متى تهل طلعة المرأة المقطقطة؟. اعتادت القطط على هذا الموعد منذ زمن ممتد. واعتادت المرأة أن تأتي ولا تتخلف عنها. بدت القطط تستشعر قرب اللقاء المرتقب.. قرب دخول الفولكس أول الشارع. فراحت تسبل العيون وتتشمم الهواء بشوارب مرتعشة وأفواه مذمومة. هل ستأتي المرأة كالعادة وتفعل ما تفعل؟. هل ستأتي اليوم أيضاً مصرة على موقفها ومتجاهلة ما اتفقنا عليه بالأمس أنا وهى.؟ معقول تضرب بكلامي عرض الحائط.؟ كلامي أنا وتحذيري لها.؟ تكبر دماغها عن كلامي أنا.؟ لا أعتقد.. أغلب ظني أنها لن تجرؤ على هذا التحدي. فأنا لا أقف وحدي فى موقف المعارضة. هى تعلم ذلك جيداً. ثم من يعرف فقد تحترم نفسها وتلم الموضوع ويبقي يا دار ما دخلك شر.! هى أستاذة فى استخدام الكلام الزئبقي لاستثارة الشفقة والتعاطف مع فكرتها.! قد لا تأتي اليوم.. تلاعبني وتجر رجلي كنوع من المهادنة. بدأ الوقت يتسرب ولا أثر لصوت الفولكس عند أول الشارع.. وراحت القطط الثلاث تدور حول نفسها فى انكسار مهزوم. تراخت الشوارب وتدلت الذيول والآذان.. مستشعرة شيئا مفاجئاً يراودها.! حدث مقلق يتربص بها.! فالمسائل ليست المسائل والانتظار يتمدد مملاً. تقاربت رءوس القطط وتغير صوت موائها.. اكتسب نغمة متأسية ممطوطة. ظهر قط رابع عريض الصدر رزين الحركة يخطو فى استعلاء متكبر.. اللون أسود غطيس والعين بركان متوهج والشارب أشواك نافرة. دخل وسط الثلاث قطط وقعد على مؤخرته فى شموخ، متلاعباً بذيله المعقد فى حركة دودية. همد مواء القطط الثلاث وارتخت نظراتها تحت نظرات القط الأسود.. رفع يده وشهر مخالبه وراح يلعق بطونها بلسانه المتورد القاني ويمسح وجهه وعينيه.. وهى تقلده فيما يفعل. انتبه القط الأسود فجأة واستطال عنقه وتشرعت أذناه فى حركة رادارية. خمش الأرض فى حماس منتش وطار يتخاطف القفزات ومن ورائه الثلاث قطط. وفى لحظة ظهر موكب المرأة المقطقطة. عملتها وجاءت.! العربة الفولكس القديمة تتهادي فى مدخل الشارع العريض والكلاكس يزفها. جاءت إذن.. رغم كل ما قلته لها.! ماشي.. سأعرف كيف أتصرف معها. عشرات القطط تتقافز وتتسابق وتتعلق بهيكل العربة وتخمش زجاجها فى هرج عشوائي. فرامل وكلاكسات ومواءات ممطوطة ومبتورة ومتصارعة وذراع ملوحة من الشباك الأمامي فى نشوة طاغية. القط الأسود يقفز إلى كبوت العربة ويلصق وجهه بزجاجها الأمامي.. ينظر للداخل فى استطلاع متوثب. تقفز إليه بعض القطط مزاحمة فى استماتة للتطلع إلى الداخل. تدور المعركة بالمخالب والأنياب والمناورة الموائية. توقفت الفولكس فى مكانها المعتاد عند ناصية الشارع ومن حولها يحتشد مهرجان القطط. ومازالت بقية الجماعات تتواثب لاهثة من الشوارع الجانبية ومن دهاليز البيوت ومن تحت العربات الراكنة على الأرصفة ومن خلف أسوار الحدائق.. فيزداد هياج النونوة والهبش وتكشير الملامح وزغرات العيون.! انفتح باب الفولكس فى صعوبة ومجاهدة.. ونزل الصندل البني المحروق بكعبه السميك ومن ورائه أطراف الجونلة الخضراء الكالحة تائهة فى زحام القطط. - ألا تريد أن تخلعها من دماغك.؟ جاءني صوت زوجتي من خلفي. التفت إليها منفعلاً. - ألا ترين بعينك.. جاءت رغم أنني.. أخذتني من يدي مقاطعة كلامي. بدت الابتسامة تتوثب من وجهها تلاطف حدتي. - ماذا تريد منها بالضبط.؟ حاولت أن أتماسك متجاهلا كلامها قبل أن تدخل بي فى متاهات نقاش فلسفي لا ينتهي. وملأتني الحمية فاندفعت إلى الشارع. توقفت عن قرب ونظرت. كانت القطط تملأ الفولكس عن آخره.. المقاعد والأرضية والشبابيك والتابلوهين الأمامي والخلفي وعلى عجلة القيادة.! العربة من الداخل والخارج كخلية النحل، مغطاة بالقطط من كل الألوان والأحجام والأنواع. ودار دماغي متحيراً.. فمن أين جاءت كل هذه القطط. أين تختفي وكيف تتجمع هكذا فى لحظة.؟ فتحت المرأة شنطة العربة وأخرجت كيساً كبيراً من البلاستيك مملوءًا عن آخره. لاحظت بجواره فى الشنطة عدة أكياس أخرى مملوءة بنفس الطريقة. احتارت قدماً المرأة وهى تتنقل فى زحام القطط. وراح الصندل المحروق يتعثر ويتفادى دهس الأجسام المتدافعة.. بينما أطراف الجونلة الخضراء تراوغ الخمشات والقفزات وتكالب الأفواه من كل جانب. وقطرات الدماء تتساقط من الكيس البلاستيك على أطراف الجونلة وظهور القطط.! المرأة تتحرك فى خفة حالمة تحوطها السعادة. تتوهج بملامحها نشوة حنون.. تلاغي القطط التى تتقافز إلى أكتافها. - آه يا غجر.. دايما مسروعين كده.! وتبعثر محتويات الكيس على الرصيف وتظل تنفضه. رءوس وأجنحة ومصارين وأرجل وحواصل الطيور المذبوحة. القطط تحارب فى نهم وتتجاذب الفضلات الدامية.. تزوم وتبخبخ بأصواتها مكشرة عن استماتة الدفاع عن القوت. تتراجع القطط الضعيفة فى توجس منكسر.. تختلس نظرات الاستجداء للمرأة.. فتروح تستخلص لها بعض الفضلات من بين الأنياب بعصا فى يدها وتلقيها ناحيتها. - الأكل كثير يا غجر.. كلوا واشبعوا. التقطتني ابتسامتها الطفولية فتلفتت متجاهلة رؤيتي. رفع القط الأسود صدره فى استعلاء المايسترو وراح يستعرض سير العمل فى وليمة القطط.. يلعق كفه فى تؤدة المتخم بالطعام.. بينما عيناه تهدهدان مشاعر المرأة فى عرفان. جرى القط الأسود متحمساً ومال برأسه يتملص من تحت باب الجراج المهجور. اقتربت متفادياً زحام القطط الذى يغطى الأرض وناديتها. نظرت ناحيتي وانفرج فمها كاشفاً سنتها المكسورة. - وآخرتها معك يعنى.؟ قلت محتدا عليها وأنا أقاوم رائحة الفضلات المبعثرة فى كل مكان. هزت كتفيها فى لا مبالاة وبدت ملامحها مستعطفة فى قلة حيلة. - الجوع كافر يا أستاذ.. ثم إن.. ثم إن.. وتكسر الكلام فى فمها منسحبا للداخل. جاء القط الأسود عدواً ومن بين أسنانه شىء متدل يتأرجح شىء لين يرتعش فى هلامية. غالبني صوتي زاعقاً فيها لعلها تفهم وتستوعب.. فالناس هنا متأففون من الروائح النتنة.. أوساخ وحشرات وأمراض وبلاوي. ظلت عيناها متعلقتين بوجهي تبحثان عن لقاء مفتقد. رفعت الشىء اللين المرتعش عن الأرض بسن عصاها ومدته ناحيتي فى حذر. فوجئت بهذا الشىء «بورص» ممتلئ الحجم يرتعش بطنه الأملس وأطرافه العنكبوتية وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. بدا جحوظ عينيه المخنوقتين يثير القشعريرة. وراحت المرأة تشرح للقطط فى تآلف متبادل وهم ينظرون إليها متخمين بما أكلوا. - وكما تعلمون يا أحبائي فإن لحم البورص من أشهى الأطعمة للذوق القططي.. ولا يمكن لأي قط أن يضحى بمثل هذه الوجبة النادرة إلا على جثته.. صح يا أحبائي.؟ ونظرت ناحيتي مستطلعة مدي قناعتي بكلامها قبل أن تواصل. - ولكن أخوكم القط الأسود آثرني على نفسه.. متغلباً على شهوته الغريزية، مقدماً أغلى ما عنده.. وجبة «البورص» قدمها لي عرفانا وتقديراً. وراحت تضغط الكلام بين فكيها فى تأثر قبل أن تدفعه ناحيتي. - هل يفعل أحد المتأففين هنا من الناس ما يفعله القط الأسود؟!. لوحت لها بيدي مستنكراً هيافة ما تقول.. وهممت بها متوعداً للمرة الأخيرة فصادمتني عينان متنمرتان فى تحفز.. القط الأسود متأهب للانقضاض على وجهي.! كان مرابضاً بين أقدامناً متعالي الظهر مكشراً عن أنيابه المسنونة. وأحسست بموائه المشحوذ متواصلاً ينخر أذني. تراجعت خطواتي إلى الوراء تحسباً لمباغته متوقعة.! كانت عيون القطط من حولنا شاخصة، تراقب فى توجس متأهب. انحنت المرأة ومسحت بيدها على ظهر القط الأسود.. وهى تهمس له بخالص التقدير على هديته الغالية. أرخي القط ظهره فى طواعية وأسبل عينيه انتشاء بلمسات اليد الحانية وراح يغرغر فى تناغم. ............................ استدارت لمواجهتي وكنا ممددين على الفراش. بدا صوتها نافذ الصبر.! لماذا لا تدع الناس فى حالهم.؟ ثم إنها قد تكون وحيدة مقطوعة من شجرة.! قد تكون سلوتها فى حياتها لا تتعدى الاندماج فى عالم القطط. إطعامها والحنو عليها والانشغال بها. الوحدة صعبة.. قاتلة يا فنان.! حاولت أن أقنعها بأن هناك الملايين من البشر الجوعي أولي بالإطعام من هذه القطط. ثم أتعرفين كم تنفق على هذه الكمية الكبيرة من الجيفات التى تلقيها فى الشوارع. هى إذن وارثه.. بلا شك وارثه ولا تعرف كيف تتصرف فى أموالها.. رأيت بعيني شنطة عربتها محملة بالأكياس الممتلئة.. تكفي لإطعام قطط الناحية.. إطعام قطط الحي بكامله. لامست أنفي بطرف أصبعها مداعبة. فكلها مخلوقات الله.. وكلها تستحق الإطعام. أدرت لها ظهري متململا. فقد بدأنا منزلق الفلسفة الكلامية.! تهادي إلى أذنى صوتها متوجساً.. إن كنت قد رأيت القط الأسود الذى اعتاد مؤخرا أن يقف على سور حديقتنا.؟ فاجأني ما تقول فالتفت إليها وتعلقت نظرتي بها. فأي قط تقصد.. وهل هو الذى.؟ قالت وهى ساهمة تنظر إليه.. فنظراته الغريبة لا تريحها على الإطلاق.! ............................ بعد صلاة الفجر تركتهم يتجادلون أمام المسجد فى شئون البلاد والعباد ومشيت. كان الشارع مظلماً على غير العادة.. بعض لمبات الأعمدة مطفأة ومنكسة فى خشوع.! أنا بطبعي لا أرتاح لجو العتمة.. الرهبة مترسبة بداخلي منذ سنوات الطفولة.. وأنا متعلق بذراع جدي بين غيطان الذرة فى قريتنا.. تناوشني أشباح الأعواد والأوراق الجافة وتطاردني بأصواتها وأذرعها الطويلة محاولة اختطافي.. فأغمض عيني فتروح تتسرب من تحت الجفون وترعبني وتأكل عيني.! طرقعات المسبحة ترتفع بين أناملي وأنا أخطو بهمة إلى البيت. توقفت وأمعنت النظر. رأيت عينيه تومضان فى الظلام وهو يتثاقل فى مشيته. قطعة من العتمة تتحرك ناحيتي فى جرأة متحفزة. ارتبكت للحظات وحاولت أن أتجاهله.. لا أحيد عن طريقي لعله يبتعد ويتراجع.. يتنحي عن مواجهتي. هو بعينه القط الأسود.! ظل يتقدم مصرا على قطع الطريق فى تحد.! قلت آخذها من قاصرها وأتنحى أنا قليلاً.. تاركا له وسط الشارع. راح يناور بعينين متوهجتين مكشراً عن أنيابه. المسألة تبدو مبيته ومخطط لها جيدا. ماذا أفعل إذن وكيف أتصرف.؟ هل أتراجع عائدا ناحية المسجد.. أم أستجمع شجاعتي وأواصل طريقي وليكن ما يكون.! قد يكون مسعورا فتكفي نهشه ناب أو هبشة مخلب لإلقائي فى دوامة العلاج والحقن ووجع الدماغ.! راح يدور من حولي مراوغاً فى إصرار لجر شكلي.! اكتشف بلا شك ما يدور برأسي. توقفت مكاني ولم أجد غير المسبحة أهش بها عليه.. بسّ.. بسّ.! ولكنه لم يبسّ وظل يمعن النظر إلى وجهي. جلس على مؤخرته فى منتصف الشارع شاهراً ذيله إلى أعلى كالوتد وراح يعوى بصوت الذئاب.. أرعبني طريقة تنغيم الصوت بهذه الطريقة فتجمدت مكاني.! لم أسمع من قبل قطاً يموء بهذا الصوت. وفى لحظة فوجئت بعشرات القطط تأتي من كل مكان. تخترق الحوائط والأشجار والعربات وتقفز من الأسطح والأسوار والأكشاك الخشبية. تأتي عدوا لتحيط بي من كل مكان. وفى لحظة أحسست بأنني لم أعد شيئاً يذكر أمام هذا الحشد من الشياطين.؟ القط الأسود يعوى ويزوم والكل يفعلون مثله.. ويزداد ارتفاع الأصوات فى كل مرة.! فى كل مرة.! إذن فقد بدأت المعركة.. بدأ التحفز والاستعداد للهجوم. وعلى غير إرادة وجدتني أنطلق جريا ناحية البيت.. أستشعر الأجساد اللينة ترتعش تحت قدمي والعيون المتوهجة تتساقط على رأسي وكتفيّ وتدخل من ياقة الجلباب والعواء المنسلخ يخترق أذني وينسكب كاويا بداخلها. كانت عيناي معلقتين بباب البيت هناك، بضلفتي الحديد الأسود المغلق بالسلسلة المحكمة.. ولكن الباب لا يتحرك.. لا تقترب منى ولو خطوة.! وظللت أعدو لاهثاً بكل قوتي. هالني أن الباب الحديد بدأ يبتعد من أمامي شيئاً فشيئاً.!