«العالم ينتفض.. متحدون فى مواجهة التطرف»، عنوان المؤتمر الدولى الثالث لمكافحة التطرف بمكتبة الإسكندرية العريقة، وقد لخص الدكتور إسماعيل سراج الدين رؤيته. فلا غنى عن المواجهة الجماعية لخطر صار يهدد العالم، ولا غنى عن الدور الثقافي، ولذلك فدور مصر بمكانتها الثقافية والحضارية وموقعها من العرب والعالم رئيسي، واتضحت ملامح مبشرة لشراكة نفتقدها بين مكتبة الإسكندرية كمنبر دولى للتنوير والتعددية والثقافة والحوار، والمؤسسة الدينية والمفكرين والفاعلين فى حقل الفكر الإسلامى بعدما عانينا من سير فى اتجاهات متناقضة مما قلل من استفادة الدولة من قواها الناعمة فى مواجهة التطرف والإرهاب. لاحظتُ أن جهودًا تبذل دون مسْ عصب المهمة الرئيسية وهى إنتاج فكر إسلامى جديد وتخليق فقه إسلامى معاصر، ليس تفكيكًا للمقدسات أو هدمًا للثوابت بل إزالة للرواسب المتراكمة على مدار قرون، ومن ثم تقديم الدين كأنه جديد نزل توًا ليناسب العصر الحالى ويعالج قضاياه، وينبغى أن يكون هذا هو التعريف المعتمد للتجديد دون سواه. وكل من تحدثوا مع تقديرى لجهودهم داروا حول تجديد الخطاب وليس تجديد الدين وهو المطلوب الأول، وتهربوا عندما سئلوا عن المنهج والموقف من التراث؛ فالعلماء القدامى وضعوا معالجات لإشكاليات خاصة بعصرهم، ناسبت أحواله يستحضرها منظرو جماعات التطرف ويسقطونها على الواقع الحالي، فعطلوا مسيرة التقدم وأدخلوا العالمين العربى والإسلامى فى أزمات وصراعات من شأنها تجميد تطورهما لعقود طويلة، وواجب مفكرى اليوم طرح فكر جديد يتيح للمسلمين العيش فى هذا العصر بسلام وكرامة واحترام. ولنكن صرحاء مع أنفسنا ومع غيرنا فإذا لم يقم أصحاب الشأن اليوم بمهامهم ومسئولياتهم ستتجاوزهم الأحداث، ولن تغفر لهم أوطان وشعوب ترغب فى نهضة ورفاهية وعمران، إن لم يقوموا بواجب تحريرهم من قيود تثقل كاهل الإسلام وكاهلهم وتجرهم للخلف ألف عام نحو صراعات القرون الوسطى المظلمة، بل هى جناية على الإسلام ذاته فهو بحاجة لرجال العصر الحالى ليصالحوه مع الحداثة والمدنية وواقع القرن الحادى والعشرين، ونفى النزعة الشمولية المنفرة عنه التى رسختها فى الأذهان ممارسات وأطروحات التنظيمات المتطرفة، وإذا لم يحدث فسَيُهمش لا محالة لأن الحضارة العالمية تمضى نحو المستقبل.المعركة ليست سهلة ولن يتحقق الانجاز بالهروب من المشكل الرئيسى والقفز عليه وتجاوزه، وليس هناك مفر من الانخراط فى المعركة التفكيكية التحريرية للتراث، لإخراج جوهر الإسلام الحقيقى وإظهار وجهه العقلانى ونشر رؤاه التنويرية المتسامحة، وهذا يحتاج لجهود جبارة وجرأة بلا حدود فليس هناك أصعب من اشتغال الذات على ذاتها ومصارعتها لإزالة تراكمات اعتادت عليها لزمن طويل. وإذا كان الأزهر قد تحفظ على قيام البعض من خارجه بالمهمة بأدوات ومنهجية مختلفة - وهذا حقه- فليقم هو بها بمنهجيته وأدواته الحريصة على المواءمة بين القديم والجديد، وإلا فلا يلومن الجماهير المرحبة بطرح من خارجه فليس أمامها إلا هو خروجًا من مأزقها التاريخى؛ فهى راغبة بقوة فى التوفيق بين انتمائها لدينها وانتمائها لعصر مختلف يتطلب منطلقات جديدة، وإذا لم يتحقق ظلوا على الهامش وعاشوا مُحْتقَرين موصوفين بالتخلف والرجعية. عطفًا على هذا أتى طرح الخبراء من الولاياتالمتحدةوالصين فى المؤتمر؛ فالرؤية هنا أيضًا مجتزأة والمعالجة ناقصة، فدور الولاياتالمتحدة بالأساس سياسى وليس فكريًا كما عرضه جون أ. سوينى الخبير والناشط الأمريكي، ولا أرى قيمة لمقاربة فكرية ما دامت المعضلة السياسية قائمة، وطالما لم يتوقف الاستخدام الوظيفى لتنظيمات التطرف من قبل قوى دولية وإقليمية لتحقيق أهداف إستراتيجية، والتوحد الحقيقى يُبنى على تكامل المصالح بين الدول ضد عدو مشترك. أيضًا جاء طرح الخبير لونج دينج من الصين جيدًا ومقبولًا لكنها تظل معالجة ناقصة، وقد بدا واعيًا بجذور المعضلة الفكرية وذكر تحديدًا بلغة عربية يُحسد عليها اسمين هما «ابن تيمية وابن القيم الجوزية»، لكن هل الأزمة خاصة بالمذهب السنى فقط؟ ولا أظن أن وعى السيد دينج قد خانه عندما أغفل الإشارة للأزمة الفكرية لدى المذهب الشيعى أيضًا فلم يذكر لا طبطبائى ولا بهبهائي، فالأمر يتعلق بالطبع بمصالح الحلفاء السياسيين ضمن صراع المصالح والنفوذ القائم؛ وإذا كان هناك منتج تكفيرى سنى فهناك منتج تكفيرى شيعى ترعاه وتوظفه إيران الدولة ولن تحل الأزمة حلًا جذريًا إلا بثورة فكرية مشابهة لثورة فلاسفة التنوير فى فرنسا وأوروبا، تطيح بكلا النموذجين التكفيريين «السنى والشيعي» لإفساح المجال للرؤى الوسطية ومسارات التعايش والمواطنة والمساواة. اليوم الختامى للمؤتمر بالنسبة لى هو الذى فتح طاقة الأمل فخلاله وضعت الخطوط الرئيسية لخطة عمل واضحة لأول مرة، تتلخص في: أولًا شراكة وتنسيق بين الناشطين والمفكرين الإسلاميين وواحدة من أهم المؤسسات الثقافية فى مصر والعالم وهى مكتبة الإسكندرية، بما يعنى تكاملية منشودة بين الفكر الإسلامى التنويرى والمعالجة الثقافية المؤثرة. ثانيًا: المنتج الفكرى والفقهى الجديد تحدث عنه الدكتور على جمعة بصراحة ومكاشفة، بما يضعنا أمام إرهاصات منتج فكرى ذى مصداقية للتراث قادر على التصدى لقراءة جماعات التطرف، وبصدد طرح تفكيكى تنويرى منضبط، مقابل التأويل الأحادى الدموى لمنظرى جماعات العنف. ثالثًا: نشر هذا المنتج الفكرى الجديد بصورة مبسطة سهلة الاستيعاب من خلال الدراما والمواد الثقافية ليصل لكل شرائح المجتمع وليستوعبه الشباب وجمهور التواصل الاجتماعى والفضائيات والسينما والمسرح، وتلك هى عبقرية الشراكة بين المؤسسة الدينية والثقافية، وأظن أن ما حدث بمكتبة الإسكندرية خطوة مهمة فى سبيل إتمامها. لمزيد من مقالات هشام النجار;