كان نظام القبيلة في الماضي يعتمد على الجماعات العرقية التي تجمعها أرض ولغة وعادات واحدة، ويتولى قيادتها رجل يتصف بالحكمة والعقل والسيطرة، وكان هذا القائد يستمد سطوته من ولاء القبيلة له، وبالمقابل يكون قادرا عن الدفاع عن القبيلة ضد أي هجوم خارجي بتجنيد أبناء القبيلة، ومن هنا بدأت ثقافة الولاء لحاكم القبيلة. هذه العلاقة بين رئيس القبيلة وأعضائها بمرور الوقت أدت لوجود أقلية حاكمة تستمد قوتها من قدرتها على الدفاع عن القبيلة، ومجموعة أخرى ضعيفة لا تدخل ضمن هذه المنظومة، ويزداد ضعفها وفقرها لحساب القلة الحاكمة، وجدير بالذكر أن هذا النظام لم يكن سائدا في البلاد العربية فقط، بل ساد أوروبا في العصور القديمة والوسطى. وتوصل المصريون القدماء مبكرا إلى فكرة العالم الآخر والآلهة، واعتقدوا أن الإله يتجسد في صورة الحاكم، أو أن الحاكم ابن للإله، والصورة الذهنية التي تربط بين الإله والحاكم واضحة وممعنة في القدم ومتوغلة في النفس المصرية.لم تختلف تلك الصورة كثيرا حين ظهرت الأديان السماوية، لكنها حُوّرَت من فكرة الحاكم ممثل الإله في الأرض إلى الحاكم «الأب» و«القائد» و«البطل» و«الزعيم» و«المُلهم». وهذه الصفات كانت كفيلة بأن تُضفى علي الحاكم قدسية الإله دون الإحساس بحرج تشبيهه بالإله. والمدهش ليس نظرة المصريين للحاكم كزعيم وبطل أو إعطاءه قدسية إلهية فقط، بل إنهم دائما ما يغفرون له كثيرا، في سبيل تحقيق أحلامه، وغالبا ما يرون أخطاءه وسلبياته بسبب الحاشية السيئة أو الفاسدة، وليس تقصيره هو، وإن حدث تطور إيجابي في أي جانب يكون هو المسئول عنه وهو الحكيم القائد والبصير, بل إنهم ذهبوا إلى أن ظلم الحاكم او استبداده قد يرجع إلى عيب في المحكومين لا الحاكم!!. وكانت القرابين عند المصريين القدماء تقدم دائما للآلهة، وأيضا لتماثيل الملوك الفراعنة يوميا في المعابد، كما يظهر في معبد «أبو سمبل» بأسوان الذي يحوي كثيرا من الرسومات توضح تقديم الملك القرابين لذاته. حتى بعد الوفاة يستمر تأليه الحكام وتقديم القرابين لأرواحهم. وهذه الثقافة التي توغلت في معتقدات المصريين القدماء بتأليه الحاكم تطورت مع الوقت والزمن ولم يعد الحاكم مؤلهاً، لكنه ظل مقدسا في وجدان المصريين يكنون له الطاعة والتقدير، فهو الرمز والحامي. ومع الزمن تبلورت فكرة الحاكم الإله في الثقافة الشعبية، وأصبحت معتقدا قويا حيث يدور الشعب في محيط السلطة، وزخرت الثقافة الشعبية بالكثير من المفردات السلطوية التي تدل على أن الانصياع للسلطة، ثقافة وقرت في نفوس المصريين منذ أمد طويل. والمتأمل لجذور علاقة الحاكم بالمحكوم في مصر يندهش، فبرغم استبداد الحاكم في أغلب العصور، وتعرض المصريين لكثير من الظلم والفقر والقهر الذي وصل الي السخرة في بعض الأحيان، فإننا نري حب المصريين لحكامهم وارتباطهم بهم، ولعل هذه المعضلة الغريبة ترجع لأسباب عدة تتضافر مع بعضها أحيانا وتتنافر في أحايين أخرى، ومنها أن المصريين ورثوا تقديس الحاكم وتبجيله منذ عصور الأسرات الثلاثين في مصر القديمة، وأحبوا الحاكم وتفانوا وأبدعوا في خدمته رغم ظلمه، فلا يمكن تخيل أن الإعجاز الجمالي في بناء المعابد ورسم جدرانها بهذه الروعة، وبناء الأهرامات، وغيرها من الآثار نتيجة استعباد؟! إذ أن الإبداع لا يٌنتجه إلا محب. فمصر لم تعرف التضحية البشرية والسُخرة كما حاول كثيرون إقناعنا بذلك، فالحضارة تعنى الإبداع، وحضارة مصر أكبر دليل على كذب هذا الادعاء، فمصر كانت ضمير وإمام العالم القديم، فكيف لها أن تكون مدينةللعبيد وتٌنتج هذا الكم من الآثار وتحمل تلك الحضارة الرائعة؟!. وترجع أسباب تأليه الشعب المصري للحاكم رغم ما يتعرضون له من ظلم وقهر أحيانا إلى ذكاء الحاكم في ترويج أفكاره، ونسب أعمال بطولية لنفسه، واختيار معاونين له تساعد في توطيد فكرة الاستسلام والصبر. أيضا ربما من ضمن الأسباب أن كثيرا من مثقفي الأمة عبر العصور كانوا يلتفون حول الحاكم وينافقونه على حساب الشعب ويستخدمون حصافتهم ومعارفهم لموالاة الحاكم وليس لمجابهته. بجانب الاعتبارات الاقتصادية، فالحكومة المركزية هي التي تقوم بتوزيع كميات المياه، ما يجعلها المسيطر الرئيسي أو المالك للموارد الاقتصادية والمتحكم في النشاط الاقتصادي، وظهر ذلك بوضوح مرتين في العصور الحديثة وحدها، الأولى خلال فترة حكم محمد على، والثانية في فترة النظام الناصري بعد 1952، وأدى هذا التغلغل الاقتصادي إلى تزايد دور وأهمية جهاز الدولة إلى درجة غير عادية. وأبدع المصري عموما في توصيفات الحاكم، وأسبغ عليه ألفاظ التفخيم والتعظيم، لقناعته بطاعة الحاكم والرضا به، وهو اقتناع متوغل في اللاوعي الثقافي للمصريين، حيث ينظرون للحاكم على انه صاحب السلطة، وليس المسئول المفوض والخاضع للمساءلة، والقارئ للتراث الشعبي يرى بوضوح أن كل الروايات الشعبية مليئة بنماذج الحاكم المستبد باعتباره نموذجا للسلطة، ويصور المستبد على أنه شخص قوى ومسيطر مما يُبهر الجماهير ويسحرهم، بل كانوا يعتبرونه قدرا من السماء يهبط عليهم فيسلمون له طوعا أو كرها، وربما يرون فيه التوقير والقداسة حتى يريحوا أنفسهم من صعوبة مواجهته أو لتجنب مخاطر التمرد على الحاكم, وظلت دائما العلاقة مع الحاكم تتأرجح بين السلطة الأبوية والسلطة الإلهية. ولا يخفى علينا ارتباط المصري بالنيل وبحثه الدائم عن الاستقرار، فهو يرمي الحبوب في الأرض وينتظر الحصاد لعدة شهور، لذلك فالمصري ساكن ويبدو أحيانا خاضعا، لكنه متى ثار يصعب السيطرة عليه، ويصبح كطوفان النيل الذي عشقه وتعلم منه الصبر. ونذكر جميعا قصة «الفلاح الفصيح» الذي تعرض للظلم من حاكم الإقليم فأرسل شكاواه إلى الملك، وعرفت في الأدب المصري القديم ب «شكاوى الفلاح الفصيح»، وجاء في بعضها: «أقم العدل.. فالعدالة تدوم للأبد، وتنزل معك إلى القبر، فالاسم يُمحى، لكن «العدل» يبقى ويدوم»، فتأخر عليه الملك في الرد، ليسمع منه أكثر، وفي النهاية أعاد إليه حقه، وأقام العدل.