تطرح التحولات النوعية الكبرى فى عالمنا عديد الأسئلة حول الأديان ومنظوماتها الإيمانية والعقائدية والأحرى أنساقها التأويلية والتفسيرية ومؤسساتها، من منظور مدى قدراتها وكفاءتها على التكيف مع أسئلة وأفكار وقيم كل عصر وتحولاته، وكان آخرها عن الأديان والعولمة والثورة الرقمية والتطور التقنى والعلمى فى عديد المجالات، ومنها الاستنساخ عموماً، والبشرى خاصة، لأنه يطرح أسئلة الوجود والعدم التى تمثل أبرز محاور الإيمان الدينى وأسئلته وإجاباته للبشر عموماً والمؤمنين بالأديان. وها هو السؤال يعاد طرحه فى العصر الرقمى وعالم المابعديات الهادر بالتحولات الكبرى، عن دور الأديان عموماً فى المستقبل؟ هل يتناقص عدد المؤمنين بالأديان؟ هل المؤسسات الدينية الكبرى قادرة على مواجهة التغيرات الهيكلية السريعة، وهل تجدد أدوارها وخطاباتها، وهل تستطيع احتواء وتجديد قوتها الرمزية فى الحفاظ على أتباعها؟ هذه الأسئلة وغيرها تجد مشروعيتها فى الطرح لعديد الأسباب وعلى رأسها ما يلي: 1- جمود بعضُ المنظومات التأويلية الوضعية فى غالبُ الأديان، وغلبة الموروث الفقهى واللاهوتى والتفسيرى للنصوص المقدسة، وتحول الموروث الوضعى التاريخى إلى شبه مقدس لدى بعضهم من خلال المؤسسات الدينية وقادتها، على نحو أدى إلى خلق فجوات بين بعض المواريث الفقهية واللاهوتية والتفسيرية التاريخية، وبين الأسئلة والهموم والمشكلات الوجودية والاجتماعية والتقنية والفلسفية المعاصرة والمستقبلية التى تواجه الإنسان. 2- بروز اتجاهات لا دينية لدى بعض المؤمنين – أياً كانت دياناتهم ومذاهبهم - وخروج بعضهم من الأديان والمذاهب التى كانوا يؤمنون بها، أو التحول من ديانة ومذهب لآخر، وفق مبدأ الحرية الدينية. 3- احتمالات نمو وحركية بعض الأديان الوضعية، وذلك لتركيزها على «الضمير الشخصي»، وحساسيته إزاء مجموعة من القيم العامة التى تدور حول قيم الخير والحب والعدل والمساواة ونبذ الظلم والكراهية والشرور فى العلاقة بين الإنسان والآخرين. 4- اتساع وتمدد أشكال الظلم واللامساواة واللا عدالة فى عالمنا بين الدول الأكثر تقدماً، والأقل تطوراً، والمتوسطة، وداخل دوائر هذه الدول ومجتمعاتها وشرائحها الاجتماعية المختلفة، والأصوات الخافتة، أو غير المؤثرة للمؤسسات الدينية فى مواجهة هذه الأشكال المختلفة من المظالم واللاعدالة، بخلاف الدور الرعائى المحدود فى ظل ازدياد التهميش والإقصاءات من النظام الاجتماعي. 5- تزايد موجات العنف السياسى والدينى وأشكالها الوحشية، على نحو ما يجرى فى الإقليم العربي، وفى عديد مناطق العالم، سواء على شكل جماعات منظمة، أو ذئاب منفردة، أو عمليات تفجيرية، أو دهس لأبرياء، أو اغتيالات تحت قناع السند التأويلى والتبريرى الدينى الأيديولوجى الوضعي، كما حدث فى فرنسا، وألمانيا ... إلخ. أعمال العنف الوحشى والإرهابى ذات الأقنعة الدينية لم تؤد إلى استنفار المؤسسات الدينية الرسمية أو الطوعية، وإنما وظفتها غالبُ هذه المؤسسات ورجالها فى دعم مكانتهم، وكانت ردودهم فى الدفاع عن العقيدة والإيمان الإسلامى تتسم بالحذر والنزعة الدفاعية، وبالجمود والتقليدية بديلاً عن تجديد الفكر والخطابات الإسلامية، وفى تطوير المؤسسات التعليمية ومناهجها ... إلخ!. من هنا أدت أنماط العنف الاجتماعى والسياسى ذات الوجوه الدينية إلى إحياء صور نمطية واستشراقية سلبية حول الإسلام العظيم وقيمه الفضلى وثقافته، وحول المسلمين أياً كانت مذاهبهم ومعتقداتهم. الأخطر بروز حروب المذاهب الباردة والساخنة فى إطار الإسلام الجامع. من ناحية أخرى تزايد المنافسات الضاربة بين المؤسسات المذهبية المسيحية الكبرى. فى ظل هذه السياقات العنيفة –أياً كانت أشكالها- تبرز مجموعة من التحديات تواجه الأديان لاسيما السماوية فى عالمنا يمكن رصدها فيما يلي: 1- تحدى الاستجابة إلى الثورة الرقمية، من حيث خطاباتها، ولغتها، وفضاءاتها الحرة، فى إطار ديمقراطيات رقمية مؤثرة وما تطرحه من أسئلة مغايرة ومثيرة، فى ظل روح رقمية تحملُ فى أكنافها وثناياها وخطاباتها التغريدية السخرية، والمحاكاة الساخرة لبعض النصوص والخطابات الدينية وأشكالا من النقد الجارح للأديان والعقائد، والتشكيك فى المرويات والأسانيد والأدلة الدينية، والتاريخية. بعض هذه النزعة السلبية ذات جذور فى بعض الدراسات حول الأديان المقارنة، وهى تنتقل كمقاربات تاريخية من ديانات ومذاهب لأخرى على نحو ما تكشف عنه بعض المواقع اللادينية، والإلحادية، وغالبها لا يستند إلى الدرس التاريخى والنقدى المعروف فى سوسيولوجيا الأديان، وإنما ممارسة انطباعية ترمى إلى التشكيك والقدح! هذه النزعة يبدو أنها ستتزايد مع تصاعد وتمدد العنف الوحشى ذى السند التأويلى الديني! وثمة غياب لمواجهة هذا التحدى من قبل الفكر الدينى التقليدى السائد ومؤسساته إلا قليلاً. 2- تحدى التكيف وإعادة الهيكلة للمؤسسات الدينية، وفى مناهج التعليم الدينى الوضعي، وضرورات إدخال تجديدات وإصلاحات كبرى ليواجه التغيرات الرقمية والتقنية، وما تطرحه من أسئلة ومشكلات كبرى. 3- تحدى اتساع وتعدد الأسواق الدينية الوطنية والإقليمية والكونية، وصراع الفاعلين الرسميين والطوعيين داخلها وعليها، فى ظل حروب المذاهب المسيسة والفتاوى وصراع التأويلات الدينية والمذهبية الوضعية، وانعكاسات ذلك على أنماط التدين الاعتدالى والتغيرات التى تتم فى إطارها. 4- تزايد توظيف الأقنعة الدينية فى الصراعات الإقليمية فى الشرق الأوسط، ومحاولات دول الجوار الجغرافى غير العربية، إعادة السيطرة على الأسواق الدينية، وإعادة تشكيل المنطقة، بل والنزعة إلى إعادة النظر فى الجغرافيا السياسية والدينية والمذهبية العربية، وتكريس الانقسامات المذهبية السنية/الشيعية. 5- تحدى احتمالات فرض القيود على الدعوة الإسلامية فى أوروبا والولايات المتحدة، وعديد من بلدان العالم، وربطها بالدعوة إلى ممارسة العنف الدينى والإرهابى بكل انعكاسات ذلك على دخول هذه البلدان، أو التعامل مع الأقليات الإسلامية، من مواطنيها. ما سبق لا يعدو أن يكون محضُ أمثلة على تحديات ضارية تواجه المؤسسات الدينية الإسلامية، ورجال الدين، وتحتاج إلى إجراء دراسات معمقة حولها، ووضع سياسة دينية تجديدية أو إصلاحية لمواجهة تحديات عالم المابعديات المختلف وعواصفه غير المسبوقة. الإصلاح الدينى هو الحل! لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح