هوى قلبى داخل ضلوعى عندما سمعت قرار مجلس الوزراء فى 29 ديسمبر الماضى بإحالة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية فى أبريل الماضى إلى مجلس النواب ، ومن البديهى أن التصديق على الاتفاقية اختصاص دستورى أصيل للمجلس لكن المشكلة فى تناغم الأداء الحكومى ، ويعرف المتخصصون فى علم السياسة أن " الحكومة " ليست هى السلطة التنفيذية كما هو شائع ، ولكن الحكومة تعنى سلطات الدولة الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية معاً ، ومن حسن الأداء أن يكون هناك تناغم بين هذه السلطات الثلاث، وفى الحكومات الرشيدة لا يعنى التناغم أن تسيطر سلطة على أخرى أو على باقى السلطات وإنما أن تكون الحدود بينها واضحة ، ويمكن أن يحدث هذا بواسطة الدستور ولكنه يحدث أيضاً بسلامة الممارسة وحسن التقدير فيما سكت عنه الدستور ، وعندما لا يحدث هذا التناغم نكون إزاء أزمة تكامل فى الأداء الحكومى ، وهى أزمة تعرفها كل النظم التى لا يتجذر فيها الأداء المؤسسى، وهذا للأسف ما يحدث بين الحين والآخر وما حدث تحديداً فى حالتنا هذه ، فمن المعروف أن مجموعة من المعترضين على الاتفاقية لجأوا إلى المسار القضائى لاستصدار حكم ببطلانها ، وقد حصلوا عليه فى أول درجة من المحكمة الإدارية ونحن فى انتظار السادس عشر من الشهر الحالى كى تصدر المحكمة حكمها النهائى فى القضية فلماذا العجلة الحكومية فى إحالة القضية إلى مجلس النواب؟ ولنتصور أن المجلس كان قد أسرع بمناقشة الاتفاقية والتصديق عليها ثم أكدت المحكمة الإدارية العليا حكم البطلان فكيف يكون الحال ؟ وهل يُعقل فى دولة محترمة أن تكون هناك اتفاقية صحيحة تشريعيا وباطلة قضائياً ؟ لماذا العجلة وقد انتظر مجلس الوزراء ثمانية أشهر كاملة حتى يوافق على الاتفاقية ويصدر قرار الإحالة فهل ضاقت الدنيا على أقل من ثلاثة أسابيع ؟ وهكذا كان سوء التوقيت هو العنوان منذ البداية ، فكما كان الشعور بتلازم توقيع الاتفاقية مع حزمة مساعدات سعودية ضخمة غير مريح كان تلازم قرار الإحالة مع تصرفات كمنع تزويد مصر بالبترول أو اللعب فى موضوع سد النهضة غير مريح أيضاً . لكن مجلس النواب أحسن صنعاً بتأكيد رئيسه ورئيس لجنته التشريعية ونفر من قياداته وأعضائه أن المجلس لن يستبق بحال حكم القضاء كما تقضى بذلك الأعراف البرلمانية ، وأنه إذا حدث وألغت المحكمة الإدارية العليا حكم البطلان فإن المجلس سوف يوفر لمناقشة الاتفاقية كل الضمانات من وثائق وخبراء وأساتذة قانون دولى وشفافية ، والحق أن مناقشة الاتفاقية توفر للمجلس فرصة تاريخية لكسب الثقة الشعبية بقدر ما يبدو فى مناقشته هذه الاتفاقية نزيهاً موضوعياً ملامساً للأحاسيس الوطنية لهذا الشعب الذائب فى حب وطنه ، ومن المؤكد أن أعضاء المجلس يعلمون تماماً أن الاتفاقية قضية رأى عام بامتياز يجب احترامه ، أما إذا أيد القضاء بطلان الاتفاقية فإن المجلس سوف يجد نفسه بالتأكيد فى موقف صعب لأنه ليس من السهل أن يقر اتفاقية حكم القضاء ببطلانها ، وحتى إذا وجد فى نفسه الجرأة ليفعل فإن هذا يعنى أن اتفاقية تيران وصنافير ستبقى بؤرة توتر مزمن فى السياسة المصرية ، وقد ألمح الفقيه الدستورى الدكتور صلاح فوزى إلى أن المجلس سوف يكون صاحب حق فى تقدير طرح القضية للاستفتاء الشعبى ، كما أن بعض الفقهاء أثاروا إمكانية أن يكون للمحكمة الدستورية دور فى حسم الأمر بينما استبعد آخرون ذلك ، ويُلاحظ أن مسألة عدم تناغم الأداء الحكومى ليست حاصلة فيما بين السلطات فحسب وإنما داخل السلطة الواحدة أيضاً ، وليس أدل على ذلك من الاختلاف الراهن داخل السلطة القضائية ذاتها بين القضاء الإدارى الذى حكم ببطلان الاتفاقية وقضاء الأمور المستعجلة الذى حكم مرتين آخرهما فى 31 ديسمبر بوقف تنفيذ حكم بطلان الاتفاقية على أساس أنه يمثل تغولاً على السلطتين التنفيذية والتشريعية معاً باعتبار أن الاتفاقية تتناول شأناً سيادياً لا رقابة للقضاء عليه وأن السلطة التشريعية هى وحدها صاحبة الحق فى التصديق على تصرف السلطة التنفيذية . ليست قضية غياب التناغم فى الأداء الحكومى مقتصرة على حالة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية فحسب وإنما السوابق فى هذا الصدد عديدة ، ولعل من أهم هذه السوابق وآخرها قضية عضوية الدكتور عمرو الشوبكى فى مجلس النواب الذى لجأ لمحكمة النقض لإثبات حقه فى هذه العضوية وفقاً لما يقضى به الدستور ، وهى أخطر لأن الدستور ينظمها بإحكام حيث أعطى محكمة النقض دون غيرها الحق فى الفصل فى صحة عضوية الأعضاء ، وقد قضت المحكمة فى هذه المسألة تحديداً بأن العضوية للدكتور الشوبكى ، وهو حكم لم يُنفذ كما هو معلوم حتى الآن رغم صدوره منذ شهور ولا معنى لهذا سوى أن مجلس النواب لا يلتزم بأحكام الدستور ويرفض التسليم بالحق الدستورى لمحكمة النقض فى الفصل فى صحة العضوية ، بل إن التناغم غائب بين سلوك الرئيس الذى يتعرض فى الصحافة والفضائيات المستقلة بالذات لنقد بعضه خارج عن اللياقة ومجلس النواب الذى يضيق صدره بأى هجوم عليه ، وبينما دعا الرئيس الأستاذ إبراهيم عيسى لحضور مؤتمر الشباب حيث شارك فى وجود الرئيس متحدثاً فى إحدى جلساته معبراً بحرية عن آرائه فإن صدر البعض قد ضاق به وبغيره من قبله فأُغلق منبر من منابر الرأى قد نتفق معه أو نختلف لكننا لا يمكن أن نسعد بحجبه فأين المَخرَج ؟ لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد