انشغل المجتمع المصرى مؤخرا بقضية مدير المشتريات لدى إحدى الجهات القضائية، الذى تم القبض عليه ووجد فى منزله مايقرب من 150 مليون جنيه أموالا سائلة ناهيك عن ممتلكاته الأخرى من الأموال المنقولة والعقارية، فيما اعتبرت قضية العصر ليس فقط لحجم الأموال التى تم العثور عليها ولكن لكونها فى إحدى الجهات محدودة التعامل فى الأمور المالية، وهنا يتساءل البعض عن اثار مثل هذه الظاهرة على المجتمع المصرى ككل والاقتصاد بصفة خاصة، وكيفية الحد منها مستقبلا؟ وهى تساؤلات مشروعة فى ظل ماذهب إليه «دافيد نوسبوم» المدير التنفيذى السابق لمنظمة الشفافية العالمية والذى يرى ان الفساد ليس كارثة طبيعية لافكاك منها بل هو عملية منظمة تهدف إلى سلب الفرص من الرجال والنساء والأطفال العاجزين عن حماية أنفسهم. بالإضافة الى انه لا يمكننا القول بان الفساد هو ظاهرة اجتماعية واقعة حتما عبر الزمان والمكان او ان المجتمعات متساوية فى نصيبها من هذه الظاهرة.نظرا لأنه لايوجد نوع واحد ومحدد للفساد، خاصة ان الآثار المترتبة على كل منهم تختلف باختلاف النوع وآلياته، وقد فرق العلماء بين ثلاثة انواع للفساد فهناك نوع يحصل به المواطن أو الشخصية الاعتبارية على حق من حقوقه القانونية، اى فساد دون سرقة مثل تقديم رشوة لتخطى الصفوف أو لسرعة انجاز عمل ما او استخراج بعض التصاريح القانونية، وهو ما اصطلح على تسميته بالفساد الصغير. اما النوع الثانى فهو الذى ينتهك القواعد القانونية او يؤدى إلى التطبيق المتحيز لهذه القواعد وهو مايطلق عليه الفساد الإداري. والأخطر هوالنوع الثالث الفساد الكبير وهو مايطلق عليه «الاستيلاء على الدولة» وهو الذى يهدف الى تغيير القواعد المنظمة للدولة لكى تحابى مصالح البعض وعدم مراعاة المصلحة العامة. وبعبارة اخرى التأثير المباشر فى التشريعات والسياسات العامة، سواء لخفض التكاليف على تلك المجموعات أو زيادة انتفاعها، عن طريق رشوة أعضاء المجالس التشريعية من جانب بعض أصحاب النفوذ والأعمال. او الحصول على العقود الحكومية الكبرى. وعلى الرغم من أهمية النوع الثالث وخطورته، إلا انه يفتقر إلى التحليل المنهجى الواضح بحيث نضمن التفرقة بين دور جماعات المصالح والضغط السياسية فى التأثير على صانعى القرار، وهى مسألة قانونية ومشروعة فى الدول الديمقراطية، وبين الاستيلاء على الدولة وفقا للمفهوم السابق. وبالتالى يجب العمل على وضع خطوط قاطعة وفاصلة بين العمليتين. وهنا يمكن ان تكون الشفافية هى أحد المعايير الأساسية فى هذا المجال. ونظرا لان عملية الفساد تتطلب تداخل بعض الأعوان فى السلم الوظيفى مما يؤدى الى تضاعف الظاهرة فقد أشار البعض إلى ما يسمى «مضاعف الفساد» على غرار مضاعف الاستثمار عند كينز وهذا يحدث عندما يغدو الفساد أمرا مقبولا اجتماعيا ونمطا من أنماط تسيير البنية الاجتماعية اى ان الفساد يعد خلاصة مركزة لمنظومة سياسية تعزز حلقات متميزة من ضروب الفساد وتسهم تلك الحلقات بدورها فى إعادة إفراز هذه المنظومة ونصبح أمام تراكم مستديم للفساد. وخطورة المسألة تكمن فى الآثار المترتبة على وجود الفساد فى المجتمع حيث يؤدى إلى تراجع معدلات النمو ويعوق التنمية ويقوض الشرعية السياسية وهى عواقب تفاقم بدورها من الفقر وعدم الاستقرار السياسي كما يمكن ان تكون عواقب الفساد فى البلدان التى تمر بمرحلة التحول الى اقتصاد السوق والديمقراطية كبيرة إذ أن التفكيك المفاجئ للقيود التنظيمية يمكن ان يفتح الباب للتدليس كما أن التعايش بين قطاعات تتصف بحرية الأسعار وأخرى يسود فيها التسعير الحكومى تؤدى الى تشوهات عديدة وفرصا كثيرة للكسب غير المشروع. كما يمكن ان يضعف المؤسسات القائمة على تطوير السياسات الاقتصادية ويؤدى الى فشل عملية التحول.اذ ان الفساد يمكن ان يضر بمناخ الاستثمار وبيئة الأعمال خاصة عندما يلحق بالمستويات العليا للحكومة. حيث يشوه عملية وضع السياسات على نطاق واسع ويقوض مصداقية الحكومة. كما ان الفساد فى المستويات الدنيا للإدارة يمكن ان يمثل ضريبة إضافية على نشاط الأعمال ويعمل على تحويل الموارد بعيدا عن الخزانة العامة. فالفساد فى المشاريع الحكومية الكبرى يعد عقبة كأداء فى طريق التنمية المستدامة، حيث يسبب خسائر فادحة فى المال العام ويسهم فى تدنى كفاءة الاستثمارات العامة وإضعاف مستوى الجودة فى البنية التحتية العامة وذلك بسبب الرشاوى التى تحد من الموارد المخصصة للاستثمار وتسيء توجيهها او تزيد من تكلفتها، بالإضافة الى انتشار الوساطات والغش مما يؤدى إلى تدنى المشروعات العامة.ولا شك ان الارتفاع فى التكاليف لا يقلل فقط من حجم الاستثمارات الجديدة والقائمة وفعاليتها بل يؤثر أيضا على الاستثمارات الأجنبية مما ينعكس سلبا على النمو الاقتصادى بالبلاد. ولهذا يجب الا ننسى ان ثمة علاقة قوية وواضحة بين الفساد والفقر فوفقا لنتائج مؤشر مدركات الفساد لوحظ ان ثلاثة أرباع الدول التى حصلت على اقل من خمس نقاط تقع ضمن الدول الفقيرة منخفضة الدخل. والأخطر من كل ما سبق هو الأثر على أنماط القيم بالمجتمع اذ وكما يقول ادموند بورك،أحد الساسة الانجليز فى القرن الثامن عشر لا تستطيع الحرية ان تستمر طويلا بين شعب فاسد، اذ يؤدى الفساد إلى الانهيار فى الديمقراطية او ينتج عنه تدهور فى نوعية الديمقراطية. كما يساعد الفساد على زيادة حدة الاستقطاب الاجتماعى من خلال التدهور فى توزيع الدخول والثروات مما يقلل من الكفاءة المجتمعية ويزيد حالات الانقسام فى المجتمع. وعلى الرغم من الجهود المبذولة للتصدى لهذه المشكلة والتى كان أبرزها قانون الخدمة المدنية والذى يهدف الى الحد من الفساد الإداري، الا ان هناك العديد من المجالات الأخرى التى ينبغى العمل عليها وتنفيذ ما جاء بدستور 2014 فى هذه المسألة مثل اصدار قانون حرية تداول المعلومات وإصلاح قانون المناقصات والمزايدات الحكومية. وتطبيق مبادئ الإدارة الرشيدة عند وضع السياسات المختلفةلتدعيم المشاركة الشعبية والديمقراطية والشفافية،وتفعيل المساءلة مع ضمان التمثيل الشعبى والمزيد من الشفافية فى آليات الحكم وتوافر المعلومات والمعرفة وتعزيز النظام الضريبى والإدارة الضريبية، وزيادة شفافية المالية العامة، وتفعيل إجراءات المحاسبة المالية. ، ولا شك إن تحقيق هذه الأهداف يتطلب بالضرورة تفعيل دور المجتمع المدنى والأحزاب المصرية وتطويريهما بغية جعلهما قادرين على المشاركة الفعالة فى صنع القرار والرقابة عليه والمساءلة الشعبية وكلها أمور تقلل من الفساد كثيرا. لمزيد من مقالات عبدالفتاح الجبالى