شتَّان بين أن تسمع وتُكوّن صورة ذهنية تخيلية، وبين أن تشاهد بنفسك الواقع. كنت كغيرى من دراسى اللغات الإفريقية، خاصة السواحيلية،المنتشرة بشرق أفريقيا،أسمع عن دولة تنزانيا. كانت معرفتى بها لا تتعدى المعلومات الأولية جغرافية و تاريخية أو ثقافية، وعرفت أن تنزانيا واحدة من دول حوض النيل البالغة إحدى عشر، وهى أكبر دولة فى شرق إفريقيا، بمساحة 947٬303 كيلو متر مربع، و سكانها 55 مليون نسمة. وتكونت باتحاد تنجانيقا وزنجبار عام 1964بعد الاستقلال. وتتمتع تنزانيا بتنوع عرقى كبير؛ وفيها نحو 120 قبيلة، و128 لغة أبرزها اللغة السواحيلية والإنجليزية بجانب لغات محلية مثل الماساي، والشامبولا ، وجندا، ونيامويزي، والداتوجا، والديجو، الفيبا، وجوجو ، والجوسي، والهازادا، وهانجازا، والإكيزو، وإيزانسو،.إلخ. شاء القدر أن أسافر إلى تنزانيا فى مهمة علمية كانت الأولى لى خارج مصر فى 2013. وكنت معيداً، والرحلة لجمع مادة علمية لرسالتى للماجستير ، وموضوعه «العبارة الفرعية فى اللغة السواحيلية- دراسة لغوية»، وتعين عليًّ انجاز مهمتى خلال ثلاثة أشهر ، والعودة إلى جامعتى وأنا أتحدث السواحيلية كأهلها، أو على الأقل إحراز مستوى متقدم فى إجادتها. قبل سفرى حددت بعض الأهداف، أولها استكشاف تنزانيا، والتعرف إلى أهله، مع مختلف فئات المجتمع السواحيلي، من أعضاء هيئة التدريس بجامعتى دار السلام والدولة بزنجبار، وتلاميذ المدارس، والناس فى الشارع، وبعض العائلات للتعرف على عاداتهم وتقاليدهم وحياتهم اليومية. ما أن وصلت مطار دار السلام، العاصمة التجارية الصناعية، حتى بدأت الصورة الذهنية فى مخيلتى عن تنزانيا تتحول تدريجياً. فى المطار سألت موظفة الاستعلامات فتاة فى العشرينات بلغتى السواحيلية الأكاديمية عن الرحلة المتجهة إلى جزيرة زنجبار على شاطئ المحيط الهندي، وتحدثت الفتاة بسرعة كبيرة لدرجة شككتنى بمعرفتى اللغة السواحيلية التى تعلمتها فى الجامعة، ويُفترض أننى سأدرسها لطلابي. فهمت بضع كلمات مكنتنى من معرفة بوابة الدخول وموعد رحلة زنجبار، وشكرت الفتاة فردت مبتسمة: «Karibu Tanzania»، عبارة ترحيب سواحيلية تعنى «أهلا بك فى تنزانيا». وكان أمامى ثلاث ساعات ونصف الساعة تفصلنى عن موعد الطائرة، جلست فى صالة الانتظار، وتفحصت وجوه ركاب حولى ينتظرون رحلاتهم، والموظفين والمارة بالمكان. ورأيت أناسا من جنسيات مختلفة، أسيويون وأوروبيون وأمريكيون وعرب. وأدركت أننى ذاهب إلى مقصد جاذب للسياح من أنحاء المعمورة، والحقيقة أن الصورة الذهنية لدى المصريين عن أفريقيا كقارة فقر وأمراض وجهل ومخاطر، صورة ناقصة ومشوهة ساهم فى صنعها عوامل وسائل إعلام والجهل والخوف من الآخر. ومن نافذة الطائرة أخذت استكشف تنزانيا من السماء. كانت الطائرة تحلق على ارتفاع قريب من الأرض بحيث تمكنت من رؤية كل شيء فى الأسفل بوضوح تام. كانت تسير فى خط شبه مائل وكأنها تقبل على المحيط بصدر رحب ومبتسمة. وكانت المرة الأولى التى أرى فيها المحيط الهندى العملاق. وخلال دقائق ظهرت من بعيد جزيرة بيضاء على امتداد شاطئ المحيط، وحين اقتربت الطائرة من الجزيرة استعداداً للهبوط ظهر اللون الأخضر، الزروع والأشجار العالية. إنها جزيرة زنجبار، بمنازلها البيضاء، زنجبار الجزيرة التى أطلق عليها الباحثون والرحالة العديد من الألقاب منها : «أندلس أفريقيا»، و«بستان أفريقيا الشرقية»، و«بلاد القرنفل» . وزنجبار ذات طابع عربى إسلامى يظهر جلياً فى عمارتها وتركيبتها السكانية، وثقافتها، وانتشار اللغة العربية التى يتحدثها عدد كبير من سكانها الذين يشكلون أغلبية مسلمة، تمثل نحو 92.5% من إجمالى السكان. وفى مطار زنجبار أنهيت إجراءات الدخول وأنا أتعامل بسواحيليتى التى عجزت أحيانا أمام سواحيليتهم العامية. وكان بانتظارى الأستاذ «عبد الله الزنجباري» أحد أبناء البلد، وتعرفت عليه بواسطة صديق مصرى أثناء استعدادى . كان عبد الله أول من أسهم فى تغيير صورتى الذهنية عن أفريقيا. كان فى الأربعينيات من عمره، وشديد الطيبة والتعاون، كان يحمل لافتة عليها اسمى بحروف لاتينية، وبعد تصافحنا سارع حمل حقيبتى كتبى وملابسى ولم يترك لى سوى اللاب توب. ومع أنه يكبرنى فى السن أبدى احتراماً وكرما شديداً، حيث أصر على دفع أجرة السيارة، وحتى وصلنا نُزل الطلاب بجوار جامعة سوزا التى أقصدها، منعنى من إخراج نقود من جيبى دولارات خشية لصوص لا يخلو منهم البلد. واشترى لى كارد لشحن الموبايل من ماله الخاص، لأطمئن أهلى فى مصر. وكان اللونان الأبيض والأخضر يسيطران على المشهد، المنازل كلها بالأبيض الذى يبعث فى النفس بهجة، وأشجار الموز والباباى وجوز الهند بلونها الأخضر فى كل مكان وعليها آثار أمطار، وكان الوقت موسم الأمطار الذى تزدهر فيه الحياة النباتية فى الجزيرة. وشاهدت من السيارة بعض الأجانب يسيرون فى الشوارع، وحركة دؤوبة فى السوق الرئيسى فى منطقة درجانى القريبة من الجامعة التى سأقصدها. وذكرنى سوق درجانى بمشهد سوق الجمعة فى مصر القديمة بالقاهرة، وفى النُزل أخبر موظف الاستقبال أننى ضيف مصرى من بلد الأزهر ، وجئت لأدرس السواحيلية فى جامعة سوزا القريبة. رحب بيّ الموظف قائلاً «Karibu Zanzibar»«hakuna matata» وهى عبارة مأخوذة من أغنية سواحيلية شهيرة للترحيب بالسائحين والزورا فى زنجبار ، وتعنى بالعربية: «أهلاً بك فى زنزبار.. لا توجد مشاكل». وتركنى عبد الله لأرتاح على أن يأتى فى الغد لنرى ما يمكننا فعله فى أول يوم لى فى جزيرة زنجبار التى يسميها البعض «أندلس إفريقيا». وتقول عنها كتب التاريخ إن زنجبار عبارة عن عدة جزر، أكبرها جزيرتى أُنجوجا، وبمبا. وتقع زنجبار فى المحيط الهندي، على بعد 20 ميلاً من الساحل الأفريقى الشرقي، وتبعد نحو 118 ميلاً عن جنوب ممباسا (كينيا)، و29 ميلاً عن شمال دار السلام، وتبعد نحو500 ميل عن جزر القمر. وخضعت زنجبار لحكم ملوك وطنيين ذوى أصول عربية، وأخرى شيرازية، قسموا الجُزر إلى ممالك متفرقة. ثم سقطت تحت حكم البرتغال، ثم حكمها سلاطين عمانيون فى الفترة الأولى ثم بالمشاركة مع المستعمر الإنجليزي. وفى ديسمبر 1963 استقلت زنجبار عن بريطانيا كسلطنة ذات سيادة. وفى يناير 1964، قاد «عبيد كارومي» ثورة ضد السلطان العمانى «جمشيد بن عبد الله». وأعلن قيام الجمهورية. وتذكر المصادر أن هذه الثورة راح ضحيتها أكثر من 30 ألف زنجبارى من أصول عربية وهندية، إضافة لاعتقال ونفى الآلاف. وفى عام 1964 قام انقلاب عسكرى فى زنجبار ضد حكم المسلمين الذين كانوا يمثلون وقتها نحو 73% من سكان تنزانيا، وتولى أمور البلاد «جوليوس نيريري» مدعوماً من الغرب. وبعد الثورة الانقلابية عام 1964بدأ الحكم الشعبى واتحدت زنجبار مع تنجانيقا تحت اسم جمهورية تنزانيا.