«يرتهن حضور الدين أو غيابه بقدرته على تكريس روحانية مؤمنة، ينمو معها الشعور بالتواصل مع المقدس، بما يكفل طمأنينة للنفس وتساميا على الغرائز وتناغما مع المبادئ الأساسية للوجود»، المفاجأة أن «الدين» - بحسب هذا الفهم - يكاد لايكون موجودا فى عالم اليوم، السبب أن الروحانية غابت مرة، بفعل التطرف الوضعى النازع إلى فصم عرى العلاقة بين الله والإنسان، حيث جرى تقديس العقل وتمجيد الإرادة الإنسانية إلى حد الادعاء ب «موت الله» – سبحانه وتعالى - كما غاب مرة ثانية بفعل الإرهاب العدمى الذى أمعن فى القسوة والإيذاء وقتل الإنسان على مذبح الله، فى رد فعل أهوج على التطرف الأول. أمام هذا العجز عن صوغ توازن بين السماء والأرض، المقدس والدنيوى، أطلق المفكر والكاتب بالأهرام صلاح سالم نداء استغاثة لخير الإنسانية كلها، لإعادة تأسيس مشروع التنوير الغربى فى ذروته النقدية وصيغته الكانطية وحسه الإنسانى، صاغ نداءه فى صورة كتاب «جدل الدين والحداثة»، الصادر عن هيئة الكتاب، وهو عمل إبداعي خلاق، وصناعة فكرية ثقيلة، تقدم حلولا مبتكرة لواحدة من أخطر مهددات الوجود البشرى حاليا، ومن ثم لاغرابة أن يدخل القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد العالمية للكتاب، مناطحا نتاجات ثلة من الفلاسفة والمفكرين العرب هذا العام. ببراعة شديدة، يأخذنا المؤلف فى رحلة شيقة على ضفاف الأفكار، لايترفق أو يتمهل، يستعرض، يناقش، يقيم، يبدى رأيه بثقة واعتداد زائدين، عبر 580 صفحة، تضم مقولات وقضايا ورؤى حيرت العقل العربى (والإنسانى)، منذ القدم، جرت الأقلام بأنهار الحبر، دون أن تصل الأفهام المعذبة إلى حدود اليقين القطعى، لكن المؤلف يأبى إلا أن يغامر كعادته. بالطبع، لايمكن قراءة «جدل الدين والحداثة»، معزولا عن مؤلفات سالم الأخرى، جميعها تشكل لبنات مشروع فكري طموح، يبتغى بناء جسور بين عوالم الدين وميادين الحداثة، نفيا للتعارض المتوهم بينهما، وهو ما يمكن تسميته «النص الكلى السالمى»، نص تتبدى بعض ملامحه العميقة فى «جدل الدين والحداثة»، إذ يضم بابين، الأول بعنوان: «مآلات الدين فى العالم الغربى»، ويخلص فيه إلى أن المسيحية الغربية تعاطت مع المفاهيم الأساسية للحداثة، خاصة التنوير والعلمنة، فى تجربة مكتملة يمكن الحكم عليها، امتدت خمسة قرون، ويتجاذب مستقبل الدين مقولتان أساسيتان: نهاية الدين التى مثلت ذروة النقد التنويرى المادى، متعايشة مع علمنة السياسة، أما الثانية فهى «خصخصة الدين»، وتمثل مجتمعات «ما بعد» الصناعة أو الحداثة. المقولة الأولى هُزمت تاريخيا بعد قرن وربع القرن من إعلان نيتشه عن «موت الله»، فالله لايزال حيا يملأ الآفاق، بالمقابل تبدو المقولة الثانية منتصرة واقعيا، زاحفة فى قلب المجتمعات الغربية، فالممارسات المادية المتطرفة أحالت الدين إلى «رأسمال دينى» أى جعلته سلعة تخضع للعرض والطلب، ومن ثم المشكلة الجوهرية اليوم، ليست موت الله أو نهاية الدين، إنما موت الروحانية المؤمنة بفعل العلمنة الوجودية فى قلب عالم «المابعد»، مما أصاب الإنسان بأزمة معنى أحاطت به من كل جانب. الباب الثانى من الكتاب، يحمل عنوانا دالا: «مآزق الدين فى العالم العربى»، لأن علاقة الإسلام بالحداثة علاقة إشكالية، لا يزال أتباعه يعتبرونها تجربة غربية محضة، يخشونها ويعادونها، ومن ثم تبلور تيار سلفى يرفض الحداثة بشكل مطلق، وتيار توفيقى يعتبر الحداثة تجربة غير معادية، لكنها بنية غريبة عن الثقافة العربية، على هذه الأرضية نشأ تيار فكرى توفيقى بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، لكنه لم ينتج موقفا متجاوزا من الحداثة، من هنا يهدم سالم كثيرا من «أوثان العقل العربى» ممهدا لاستراتيجية النهضة، داعيا إلى تجاوز الموقف التوفيقى السكونى إلى موقف النقد التاريخى الجدلى، والتعاطى مع مفاهيم كالحداثة والعلمنة والتنوير باعتبارها قيما إنسانية مشتركة، لاغربية فقط، مذكرا بأن التراث العربى الإسلامى أسهم فى تأسيسها بقدر ما، ولا سبيل سوى نقدها دون خوف أوعداء، ومحاولة سد ثغراتها، بدلا من إدعاء إمكانية الحلول الكامل محلها، أوتوهم بديل عنها. بعيدا عن عقد الاستعلاء أو الدونية، أو الهروب من كل ما هو إنسانى، بإدعاء الخصوصية الحضارية.. يعقد صلاح سالم مباراة جدلية شائقة ممتعة ومؤلمة فى آن، بين الدين والحداثة، أملا فى كسر جمود العقل العربى على الموجود، والعثور على نقطة التحام مع العقل الإنسانى، سعيا لانبعاث حضارى جديد عز مناله فى بلادنا، وأعتقد أن «جدل الدين والحداثة» خطوة عملاقة مؤسسة فى مسار الاستنارة الإسلامية الطويل والشاق، والذى يحتاج لاكتمال..! [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن;