أوصاف عديدة بدأت فى الظهور مجددا فى بعض الخطابات الفلسفية حول وصف حالة العالم المابعدى الذى نتحرك فى إطاره كعالم «المديوكر» «التفاهة» وذلك عقب فشل بعض مقاربات العولمة، وما بعد الحداثة كأطر نظرية ومنهجية وتحليلية لوضع عالمنا المتغير، وتقوض أبنيته، وتمدد العنف الهيكلى والفردى الفوضوى والدينى والمذهبى والفوضى من بعض الجماعات المسلحة والإرهابية، والحروب الأهلية. عالم يبدو إقصائيا، تفشل فيه الهبات الجماهيرية والانتفاضات الثورية كما حدث فى الإقليم العربي. لم تعد المقاربات النظرية والتحليلية، ومعها عديد المصطلحات والمفاهيم المفتاحية قادرة على إمدادنا بطاقة نور لفهم ما يحدث حولنا، وبنا وأصبحت لغتنا الاصطلاحية تبدو ميتة أو متكلسة لا تفسر شيئا بل أحيانا لا تصف شيئا. تعقدت الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وتداخلت، ولا نملك سوى آلة نظرية قديمة - أصبحت هكذا - رغم جدة بعضها تبدو عاجزة أمام انفجارات التغير السريع والمكثف، تحت وطأة العنف المتمدد، والخوف والكراهية، والإقصاءات، فى ظل انفجارات شعبوية فى القاموس السياسى لرجال الدولة ونسائها، وفى اللغة الإعلامية السطحية والآثارية والتافهة فى غالبها لاسيما لدينا فى مصر، وفى الأجهزة الإعلامية العربية الفضائية وغيرها. ظاهرة لم تعد قاصرة على إمبراطوريات التفاهة والتسطيح التى تنتج وتنشر الجهالة والغموض والفوضى والاضطراب! فى بلادنا والمجتمعات العربية، وإنما تلمس وتسمع بعض ملامحها الشعبوية فى إمبراطوريات إعلامية كونية! الكراهية، ورفض الآخر الذى يختفى فيما وراء بعض من اللغة الناعمة يسرى فى اللغة ومفرداتها وتعبيراتها ومجازاتها، ولا أحد يتوقف أمام هذا السيل المنهمر من الازدراءات الأخلاقية والقيمية والدينية والمذهبية والمعيارية التى تجدها فى الخطابات السياسية والدينية والثقافية، وهى لغة تقود إلى الفوضى المحمولة على الهدم لا البناء، وعلى العنف المفتوح على الخوف الذى بات يوميا وآنيا، خوف فيزيقى ورمزى وكينوني، حيث يبدو وكأن لا أحد يمتلك رؤية أو رؤى حول المستقبل! هناك الخوف المقيم فى المستقبل الآتى الذى يبدو وكأنه يزرع اليأس وغياب الأمل الجماعى والفردي. خوف عدمى يتناسل من رؤى دينية وضعية دموية ماضوية يعود بعضهم إليها محاولا هدم العالم ومواريثه ونظراته المتراكمة، ومنجزاته، ورؤاه من أجل العودة لإعادة إنتاج عوالم مضت وانهارت. محاولة عصابية وهيستيرية ووحشية من بعضهم لإعادة تجريف الإنسان وصياغته وفق أهواء ساعية لاختزال العالم والإنسان وفق قوالب ماضوية قديمة وصارمة، تبدو وكأنها عملية لهدم التاريخ ذاته، وإعادته إلى لحظة زمنية محددة فى مكان محدد هو هذه المنطقة من عالمنا العربى التى تعانى من أزمة كبرى فى تطورها الإنسانى والسياسى والاجتماعى والثقافى والاقتصادي. منطقة وشعوب ودول تبدو عصية على اللحاق بعالمها المتغير، وليس لديها من الإرادة والعزم التاريخى على مواجهة أكاذيبها ذاتها الجماعية وذواتها «الفردية» - لايزال الفرد والفردانية مشروعا تاريخيا فى طور التشكل الاجتماعى - بأوهامها وأساطيرها الوضعية والشعبية. دول ونظم سياسية تستدعى الكولونيالية الجديدة والإمبريالية المعولمة لكى تحتمى بها من مخاطر تهددها فى جغرافيتها السياسية، وفى تماسكها، وتحملُ معها التفكك، والاضطراب، والفوضي. ثمة هيمنة للتفاهة على عقول بعض النخب السياسية الحاكمة والمعارضة، وغياب للرشادة السياسية والعقلنة والخيال والحس السياسى الخلاق، والقدرة على الاعتراف بالأخطاء والقابلية لاستيعاب التراكم فى المشكلات وفشل التجارب فى السياسة والتنمية، والتعليم والصحة والثقافة والإدارة والتربية، وأنماط التدين الشعبى السائدة، وفى فشل غالب رجال الدين - لا كلهم - وعجزهم عن التجديد والاجتهاد فى الفكر الدينى الوضعي، وعدم رغبتهم فى الاعتراف بعجزهم، فى استيعاب الأسئلة الجديدة والمشكلات المعقدة، والتحديات الوجودية التى تواجه الإنسان العربى المهدور والمستباح فى حرياته وكرامته وجسده من خلال الاستبداد والقيود والتعذيب والإكراه السلطوي. تفاهة بعض النخب السياسية والمعارضة كشفت عنها وعلانية سنوات الانتقال السياسى والعودة إلى التسلطية السياسية مجددا، والتى قاربت على السنوات الست فى المنطقة، وما خلفته من دمار وانهيارات دول ونظم سياسية وحروب أهلية، وخوف، وتشرد وهجرة قسرية وجوع وحرمان! تفاهة إمبراطورية مهيمنة، تكشف عن انهيار التعليم والثقافة والتخصص والتربية جعل من خطاب غالب رجال الدين ودعاة الطرق وناشطى الفتن الطائفية، والمذهبية المسيسة لغوا وراءه لغو، هم سادة الفوضى والكلام الفارغ والطبول الجوفاء واللغة الخشبية العقيمة، هم يشكلون وبعض النخب سلطة الفوضى ومعهم عديد النشطاء السياسيين، ولغو وثرثرة الخطابات النمطية الغربية المستعارة. تفاهة حاملة لضوضاء لغوية لا تُبين! عالم التفاهة وراءه المديوكر، والمنيوكر - ما دون المتوسط وما دون الحد الأدنى - من المعرفة والتخصص والوعى السياسى والاجتماعي، حيث يتجلى تخصص هؤلاء المديوكر والمنيوكر فى كل التخصصات، والعلوم، ويفتون فى السياسة والاقتصاد والثقافة والدين والرياضة والفنون، إفتاء بلا علم ولا تخصص!! سلطة إفتاء لا مرجعية علمية وتخصصية لها، وإنما يمكن أن نطلق عليهم مفتو وخبراء الشارع، حيث انطباعات سطحية تقال، عارية عن المعلومات المنضبطة، والمدققة، مفتو وخبراء الشارع ومعهم بعض النشطاء الإعلاميين يثرثرون ويلغون ويشيعون التفاهة والفتنة بين المتلقين. تفاهة وشعبوية سطحية ابنة الفوضي، وناشرة ومنتجة لها، نحن لا نملك ترف الحياة داخلها أو متعة مشاهدتها والتكيف معها، وإلا سنواجه طوفان التفاهة والفوضى والتفكك والانهيارات والجوع والموت المعلن! لا اختيار أمامنا إلا مواجهتها مصريا وعربيا وبحزم! لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح