أينما وليت وجهك وبصرك وبصيرتك، تكتشف أن وراء كل خلل في حياتنا عديد الأسباب، على رأسها غياب الثقافة أو اللامبالاة بها، أو نسيان دورها في الارتقاء بالفكر، وإرهاف روح الشعوب، وتهذيب السلوك الاجتماعى الفردى والجماعى عموماً. إذا نظرت للخطاب السياسى الفقير في المعلومات والتحليل والاستخلاص، والسطحى في معالجته للمشكلات السياسية والاجتماعية، تكتشف فوراً أن وراء هذا الفقر السياسى، غياب ثقافة لدى منتج الخطاب، على نحو جعل خطابه ومقاربته لقضاياه تتسم بالتبسيط، والأحادية وعدم التأصيل والافتقار للعمق، والاضطراب في الرؤية، والميل إلى لغة الشعارات العامة التى لا تفسر شيئاً، وتفسُر كل شئ في ذات الوقت. السياسى المثقف من مثيل فرنسوا متيران، الرئيس الفرنسى الأسبق، وتشرشل، رئيس الوزراء البريطانى الأسبق، كان خطابهما ومقارباتهما للسياسة ومشكلاتها وظواهرها تتسم بالعمق والشمولية والذكاء، وهو ما يتجلى في اللغة السياسية المحمولة على الثقافة وخبراتها. من ناحية أخرى نجد تسطيحاً وبساطة مخلة لدى كثير من رجال السياسة، لاسيما في ظل هيمنة التكنقراط والبيروقراطيين على تشكيلات الطبقات السياسية الأوروبية والأمريكية منذ منتصف عقد الثمانينيات، من هنا تحولت السياسة إلى مقاربات تقنية وأرقام، ولغة فنية على نحو أثر على اللغة السياسية والخطابات التى تتشكل منها. وزاد من تفاقم هذه الظاهرة بروز ظاهرة الإيديولوجية الناعمة أو الرخوة "Soft Ideology"، تلك التى سادت فى ظل تحولات السياسة الأوروبية من اتجاهات رئيسة بين اليمين والوسط واليسار، وما بين هذه الاتجاهات داخل كل منها، من يمين الوسط إلى يسار الوسط وهكذا- إلى تبلور مجموعة من الأهداف السياسية تتمثل فى تبنى سياسات حقوق الإنسان بمختلف أجيالها، ثم سقوط الإمبراطورية الفلسفية الماركسية بعد سقوط حائط برلين، وتفكك الإمبراطورية السوفيتية، وهو ما أثر على موقع الماركسية واليسار الأوروبى والعالمى، وتراجع الوسط التاريخى لصالح اليمين لاسيما فى ظل الريجانية والتاتشرية، وصعود الاتجاه النيو ليبرالى فى مراكز صنع القرار فى الإدارات الأمريكية والغربية. وعلى الرغم من التحولات ما بعد الحديثة والعولمة وصيرورات ما بعدهما، وما فرضته من تفككات فى بعض بنُى الأفكار، ومن تشظيات وانهيارات فى بعض المنظومات، إلا أن المقاربات الثقافية / السياسية، لا تزال محدودة لدى بعض رجال السياسة ونساءها لمواجهة واقع دولى مضطرب ومعقد، ويتسم بالسيولة وعدم اليقين والظواهر غير المألوفة. فى إطار الشرط ما بعد الحديث، وبروز إشكاليات المعنى وبروز ظاهرة التفكك من الأنساق الكبرى إلى المجموعات والمكونات الأولية داخل المجتمعات، وتآكل الموحدات الكبرى، ومن ثم لا يمكن فهم طبيعة هذا التحول الأمن خلال المقاربات السيو- ثقافية، ومن ثم تبدو التعثرات واختلال المقاربات السياسية لدى الطبقة السياسية البيروقراطية والتكنقراطية فى معالجة طبيعة ظواهر عمليات التحول الاجتماعى والثقافى والسياسى. فى بلادنا وعالمنا العربى تبدو الأمور أكثر تفاقما، وضعف التكوين الثقافى لمن يعملون بالسياسة واضح، ومن ثم تغلب عليهم المناقشات البيروقراطية قصيرة النظر فى معالجة مشكلات أكثر تعقيداً فى حياتنا اليومية. تغيب المقاربة الثقافية/ السياسية والاجتماعية، ويغيب عنها التاريخ والنظرة التاريخانية لجذور المشكلات المعقدة وتطوراتها والأخطر تشعب هذه الجذور وأسبابها وتداخلها، من هنا يميل المشتغلون بالسياسة والأحرى اللاسياسة فى بلادنا إلى معالجة المشاكل فى سطوحها وظواهرها وليس فى أعماق مناباتها، وهو ما يؤدى إلى احتواء بعض هذه الآثار السطحية، ثم سرعان ما تنفجر بين الحين والآخر دون معالجة جادة وعلمية وحقيقية. خذ المقاربة الاقتصادية لمشاكلنا والتى تعتمد على بعض التقديرات الرقمية والرياضية دونما اعتماد على المسوح والبحوث الاجتماعية والثقافية حول السلوك الاقتصادى للمصريين، وفى اطار شرائحهم الاجتماعية فى الريف والحضر، من هنا تبدو الفجوات واسعة بين صانع القرار الاقتصادى، وبين "المواطنين"! فى العمارة وطرازها، تبدو الثقافة غائبة ومعها الجوانب الاجتماعية القيمية والسلوكية للمواطنين، ونمط معاشهم وأقرب الأنساق المعمارية لتحقيق راحتهم، أو هدوء حياتهم فى المنزل، وفى عمارة المصانع والمبانى الحكومية والقطاع الخاص، تغيب الثقافة عن تصميمات المعمارى لصالح النظرة الربحية للمقاول وذهنيته التى ترمى للربح السريع المتعاظم منه إلى فلسفة بناء المسكن، وأماكن العمل، واللهو البرئ والتريض والترويح.. إلخ. هيمنة عقلية المقاول /المهندس، أو المقاول الذى يحرك تصميمات المهندس المعمارى، تؤدى إلى سيادة الفكر العشوائى والأبنية التى تفتقر إلى الجمال فى الشكل والتصميم، والخلل فى وظائف المسكن أو مقار العمل أو مناطق الترويح عن الأنفس والأرواح، وتصميم وتشكيل الفراغ العام الذى يحتوى ويحتضن المجال العام بكل تفاعلاته. تغيب الثقافة عن عمل المعمارى والمقاول فتسود الوظيفية الضيقة الأفق المحمولة على العشوائية، وتغليب القبح على الجمال، لأن هؤلاء يعرفون أنه لا مجال للمحاسبة سواء على الصعيد القانونى، أو المهنى على عمارة القبح التى تشيع العنف من بين ثنايا الأبنية القبيحة التى توزع القبح بين الناس، ومن ثم يتأثرون نفسيا وقيميا وإدراكيا به فى مقارباتهم للأشياء والظواهر، وفى ممارساتهم السلوكية تجاه بعضهم بعضاً. خذ غياب الثقافة عن التعليم ومناهجه، حيث تبدو العملية التعليمية وظيفية هدفها الحفظ والتكرار وإعادة تلاوة المواد التعليمية المقررة، وهو ما يؤدى إلى غلبة المحفوظ والنقلى على المتغير والتلاوة والحفظ على المقاربة النقدية للظواهر والمشكلات والأفكار. عندما تغيب الثقافة كمقاربة أساسية فى العملية التعليمية يفتقر الطالب والطالبة إلى الذائقة الثقافية والجمالية والحساسية فى النظر إلى الأمور، ويسهل على الطالب أن يتعامل مع الموروثات النقلية على أنها مقدسة أو شبه مقدسة رغم أنها وضعية وبشرية بامتياز وتقبل النقد والجرح والتعديل، والاستبعاد أو التطوير.. الخ! الطالب الأزهرى – والطالبة لا يختلفان كثيرا عن طالب التعليم العام أو الجامعى، كليهما يعتمد على الحفظ وعلى ذهنية قبول ما يحفظه على أنه يشكل الحقيقة وما عداه هو الخطأ. بينما ارتكاز التعليمى على الثقافى والنقدى يحرك عقل الطلاب والطالبات، ويدفع بهم إلى استقلالية التفكير والإبداع، وغياب الثقافى يؤدى إلى النقل والأتباع، وإلى تيسير قبول بعضهم للأفكار التكفيرية بل والانضمام إلى بعض هذه المنظمات التكفيرية التى أشاعت فى حياتنا الكراهية ونبذ الآخر المختلف دينيا أو فكريا أو مذهبياً. أنظر إلى تراجع مستويات تدريس الثقافة الموسيقية فى المدارس والجامعات –ممارسة واستماعاً- يؤدى إلى شيوع الغلظة والعنف بين طلاب المدارس والجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة. أين المسرح فى مدارسنا؟ أين المسرح فى جامعاتنا ومعاهدنا؟ أين السينما والارتقاء بالمشاهدة من خلال تحليل الأفلام وشرح المدارس السينمائية والإخراجية للطلاب للارتقاء بحسهم وزوقهم البصرى؟! أين الرسم والنحت ودروسهما فى مناهج التعليم؟ بعضها مقرر، ولكنه لا يمارس بجدية وتغيب النظرة إلى أهميته فى العملية التعليمية لإرهاف الحس، واكتشاف المواهب بين الناشئة وتوجيههم إلى حيث توجد مواهبهم وتطويرها. أين الرحلات إلى المسارح والمتاحف ودور عرض الفنون التشكيلية؟ أمور غائبة تعكس الانفصال بين التعليم والثقافة. خذ أيضاً على سبيل المثال النصوص الأدبية الشعرية وسواها فى المناهج التعليمية نادراً ما تكون خيارات موفقة وجميلة تدرب الطلاب على جمال اللغة العربية وأناقتها، ولا تكاد تجد اختيارات لنصوص وكتابات سردية للأجيال الجديدة فى السرد والشعر المعاصر، كى يستطيع الطالب والطالبة أن يستوعب اللغة والسرد الجديد الذى تطرحه هذه الأجيال فى أعمالها المختلفة. خذ انفصال الثقافة عن الإعلام المرئى والمكتوب على سبيل المثال، وهو ما يبدو فى ضحالة المعالجات للقضايا السياسية والاجتماعية، وفى ضعف تكوين غالبُ معدى ومقدمى ومخرجى البرامج التلفازية، وضيق الأفق فى الأسئلة وسطحية الحوارات التى تجرى فى لغو وثرثرة وعنف. أن غياب وضعف التكوين الثقافى والفنى والجمالى يبدو فى خطاب التغريدات، حيث يسود ضعف اللغة العربية وركاكة الكتابة، والتهجين بين العربية الفصيحة واللغة العامية فى ركاكة وضعف شديدين، فى حين أن شيوع الثقافة والجمال فى التعليم العام والجامعى وفى وسائل الإعلام، كان سيؤدى إلى ارتفاع مستوى لغة التغريدات وفى اختيارات المغردين للموسيقى والسينما والرسم والنحت.. الخ، على صفحاتهم على الفيس بوك وتويتر وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعى. الصفحات على الواقع الافتراضى كاشفه عن الثقافة والحس الجمالى من حيث الرقى، أو التدهور من خلال ما يبث على هذه المواقع الاجتماعية الافتراضية من مواد. أن إيلاء أهمية للربط بين الثقافى والتعليمى والاجتماعى والسياسى تبدو أساسية وضرورية لتطور الحياة العقلية والإبداعية فى بلادنا، واستمرارية الانفصال بين الثقافة والتعليم والإعلام والسياسة سيفاقم من أزمات النخب السياسية، ومن تردى مستويات الأداء، وضعف للمورد البشرى المصرى، وإلى هزال ميزانية المواهب والكفاءات المصرية.