صحوت مستبشراً بذكرى مولد رسول الرحمة - صلوات الله عليه - ورأيتها فرصة لصلة الرحم والتهنئة بالمناسبة الغالية ، وفى تمام العاشرة وأربع دقائق وقعت الجريمة الدنيئة كما تشير عقارب الساعة المتوقفة بفعل الانفجار فى قاعة الصلاة بالكنيسة البطرسية ولم أعلم بوقوعها إلا بعد ساعة . انتابنى غم لا حدود له وتوقفت عن الاتصال بالأقارب والأحباب وبدأت أتابع الحادث الأليم . فكرت طويلاً فى أن أشرع فى تعزية أصدقائى المسيحيين لكنى لم أفعل وقلت لنفسى صحيح أن المسيحيين الذين هم طيلة عمرى أساتذتى الأجلاء وأصدقائى وزملائى الأعزاء وجيرانى المخلصين وشركاء الحياة الطيبين هم من دفعوا الثمن لكن المصاب لمصر كلها والعزاء لكل أبنائها . لم أتوقف طويلا عند الجدل الذى ثار حول ما إذا كانت الجريمة دينية أى موجهة ضد المسيحيين بصفتهم الدينية أم وطنية بمعنى أنها طعنة فى صدر مصر لأننى لم أجد فارقاً بين المعنيين ، فقد أثبت أقباط مصر دوماً تجذر انتمائهم الوطنى ، والعلامات فى هذا الشأن فارقة تبرز منها دورهم فى ثورة 1919 وصولاً إلى ثورة يناير وتصحيحها بثورة يونيو ، ولذلك فإن من يريد هدم مصر لابد أن يركز على هدمهم لأنه لو نجح لا قدر الله فى كسر شعورهم الوطنى فسوف تضيع مصر وتتحول إلى دولة كتلك الدول التى نراها من حولنا مترنحة مشرفة على السقوط . وقعت الجريمة فى ظل تصاعد عالمى للإرهاب وهى حقيقة ينبغى ألا تغيب عن أذهاننا لأن الذين يعايروننا فى الخارج بالإرهاب ويسمون الجريمة بالعار المصرى يعرفون أن الإرهاب يطول الجميع بما فى ذلك دولهم ووقعت أيضاً فى ظل صحوة جديدة للإرهاب فى مصر وعدد من الدول المجاورة كما يظهر من حوادثه الأخيرة ، ولا شك أن دوائر الإرهاب فى مصر قلقة من صمود الشعب المصرى رغم الصعاب وبداية مؤشرات على انفراجة محتملة فى الأفق السياسى والمستقبل الاقتصادى ، ولذلك جاءت هذه الصحوة الأخيرة التى يجب أن نعترف بها فى العمليات الإرهابية كى تئد هذه المؤشرات فهل من تقصير فى هذا الصدد ؟ فى الواقع أن الإجابة عن سؤال التقصير تصلح بلا ونعم معاً ، فهى لا لأن أجهزة الدولة المعنية تبذل قصارى جهدها فى مكافحة الإرهاب وقد حققت إنجازات استراتيجية فى هذا الصدد ولأن طبيعة الإرهاب تجعل النجاح المطلق فى مواجهته مستحيلاً وبالذات على المدى القصير لأن هذا النجاح يتطلب تجفيف منابع الإرهاب ، ولن يحدث هذا إلا بإتمام مشروع نهضوى شامل للأبعاد الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ، لكن الإجابة تصلح أيضاً بنعم لأن عدداً من العمليات الإرهابية المنفذة وآخرها هذه الجريمة البشعة كشف عن تراخٍ فى التأمين وعقم فى أسلوبه يحتاجان مراجعة أثق أنها ستحدث وأتمنى أن تُترجم عملياً . كشفت الجريمة رغم الألم العظيم الذى اعتصر قلب كل مصرى فور وقوعها عما يطمئننا على حاضرنا ومستقبلنا فمازال هؤلاء المصريون والمصريات الذين اتخذوا المسيحية ديانة لهم متمسكين بوطنهم مخلصين لهم ولو كره الإرهابيون ، ومازال قادتهم الدينيون يؤكدون يوما بعد يوم تجذر الانتماء الوطنى فى قلوبهم وعقولهم ، ومازالت كلمات البابا شنودة عن مصر ذلك الوطن الذى يعيش فينا شعاراً لكل مصرى وكلمات البابا تواضروس عن أولوية الوطن على الكنائس دليلاً نبيلاً على الوطنية ، وهاهم قساوسة مصر العظام يهدئون من روع أبناء الكنيسة وبناتهم وينصحونهم بأن الغضب غير المنضبط هو غاية ما يريده الإرهاب ، وللأمانة فقد كان غضبهم بصفة عامة مفهوماً ومنضبطاً خاصة وقد كانت هناك مؤشرات على وجود محرضين من غير المسيحيين ينتمون فى الأغلب لمعسكر الإرهاب، كذلك كانت الجريمة النكراء تأكيداً جديداً على الوحدة الوطنية المصرية الراسخة كما ظهرت من ردود فعل شركاء الوطن المسلمين هلعاً على فقدان الأحباء من الأصدقاء والزملاء والجيران ومسارعةً إلى المشاركة فى عمليات الإنقاذ والتبرع بالدم ، وما أجمل تلك الصورة لنسوة محجبات وهن يبكين ألماً من هول الجريمة وهذه المشاعر السامية التى غمرت صفحات التواصل الاجتماعى بين أبناء الوطن الواحد وهذا الكاريكاتير العبقرى للموهوبة دعاء العدل وقد رسمت عروسة المولد وهى تبكى ألماً وتتشح بالسواد ، ومع ذلك فإن الأمانة تقتضى الإشارة إلى أولئك الغربان الذين يتبنون ثقافة البغض والكراهية بدعوى الإسلام فينكرون صفة الشهداء على ضحايا الجريمة ويُحَرمون الترحم عليهم وهى أفكار لا أمان لنا بغير إعلان الحرب عليها واجتثاثها اجتثاثاً الأمر الذى يؤكد أهمية معركة رد الاعتبار إلى الخطاب الدينى الصحيح التى يتصدرها الرئيس . كانت الدولة على مستوى الحدث فأعلنت الحداد الرسمى ثلاثة أيام وشارك الرئيس الذى استن التقليد الحميد لزيارة المسيحيين فى عيدهم فى الجنازة الرسمية التى أقيمت لشهداء الوطن وأعلن بعدها عن اسم الفاعل والقبض على معظم شركائه وتوعد الإرهابيين بالثأر وهو ما أثار حفيظة بعض الكارهين ، وكأن الرئيس يقصد بالثأر الانتقام العشوائى وليس الفاعلية والسرعة فى المواجهة ، وانتهز البعض الفرصة لتصفية الحسابات مع النظام فى توقيت غير موفق . لن ينتهى الإرهاب إلا بتجفيف منابعه الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والخارجية ، وهذه معركة وطن يسعى إلى بناء حاضره ومستقبله بناءً سليماً ، وسوف تنتصر إرادة المصريين مهما تكن التضحيات وكم كانت هذه المصرية المسيحية الصلبة معبرة عن روح الشعب المصرى وإرادته حين هتفت رغم الألم بكل ثقة : " هنبنيها تانى وهنصلى غصب عنكم " . حفظ الله مصر وشعبها . لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد